اخبار
د. شيماء القصاص: المتحف المصري الكبير.. حملة تسويق عالمية لمصر
الثلاثاء 04/نوفمبر/2025 - 07:28 م
طباعة
sada-elarab.com/785159
لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا ثقافيًا عابرًا كما قد يتخيل البعض، بل هو حملة تسويقية وطنية ضخمة استهدفت إعادة تقديم مصر للعالم بصورة تليق بحضارتها ومكانتها.
فالرئيس لم يكن بصدد تنظيم حفل بروتوكولي لاستعراض إنجاز معماري جديد، بل كان يطلق مشروعًا استراتيجيًا يُعيد مصر إلى الصدارة السياحية والاقتصادية والثقافية، في مشهد يمكن وصفه بأنه “إعلان عالمي لمصر الجديدة”.
الافتتاح الذي تابعه العالم أجمع عبر آلاف القنوات والمنصات الرقمية لم يكن مجرد احتفال فني، بل حدث اقتصادي وسياحي ضخم بكل المقاييس. فحين تبث منصة “تيك توك” التي تضم أكثر من مليار ونصف مشترك حفل الافتتاح على الهواء مباشرة، وحين تتصدر صور المتحف واجهات الصحف العالمية من “الغارديان” إلى “لوموند”، فإننا أمام حملة دعائية مجانية تُقدّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات لو تم تنفيذها تجاريًا. لقد تحوّل المتحف إلى رمز لهوية مصر الحديثة، يجمع بين عبق التاريخ وروح التكنولوجيا، ويُعيد تسويق البلد كوجهة فريدة تجمع بين الأصالة والحداثة.
المردود الاقتصادي المتوقع من هذا الحدث يفوق بكثير مجرد عوائد التذاكر أو السياحة المباشرة، فهو يسهم في تنشيط الفنادق والمطاعم وحركة النقل والتجارة، ويرفع من معدلات الاستثمار في المنطقة المحيطة بالأهرامات. وتشير التقديرات إلى إمكانية تحقيق عائدات تتجاوز 2.5 مليار دولار خلال العام الأول فقط، إذا استُثمر الزخم العالمي بصورة ذكية. فالمتحف بحد ذاته ليس فقط مشروعًا ثقافيًا، بل أحد أهم أدوات القوة الناعمة المصرية، ومصدر محتمل لخلق فرص عمل وتنشيط الاقتصاد السياحي على المدى الطويل.
وقد جاءت ردود الفعل الدولية مبهرة في مجملها، حيث وصفت وسائل الإعلام العالمية المتحف بأنه “أعظم إنجاز حضاري في القرن الحادي والعشرين”، وأشادت بتصميمه المعماري الفريد القابع على مقربة من الأهرامات، وبالدمج الذكي بين العرض التكنولوجي المتطور والروح التاريخية للآثار. كما أشار مراقبون دوليون إلى أن مصر نجحت في تقديم نفسها من جديد، لا كدولة ماضية في تحديث بنيتها فحسب، بل كدولة تحترم تاريخها وتستثمره اقتصاديًا. ووصلت التغطية الإعلامية إلى أكثر من 180 وسيلة دولية و450 مراسلًا حول العالم، في سابقة لم تشهدها أي فعالية ثقافية في المنطقة.
ورغم هذا النجاح الساحق، لم تخلُ التغطية من بعض الملاحظات والتحفظات المحدودة. فقد تحدثت بعض الصحف الغربية عن تأخر المشروع أكثر من مرة، وطرحت تساؤلات حول الجدوى الاقتصادية قصيرة المدى، وأشار بعض الأكاديميين إلى ضرورة أن تشمل العروض المتحفية جوانب الحياة اليومية للمصريين القدماء، لا أن تقتصر على الملوك فقط. بينما رأى آخرون أن التحدي الحقيقي يبدأ بعد الافتتاح، من خلال وضع خطة تشغيلية وسياحية طويلة الأمد تضمن استمرارية الحضور العالمي للمتحف. هذه الانتقادات، وإن كانت طبيعية في حدث بهذا الحجم، فإنها تُعد في جوهرها دعوة لتحسين الأداء وتعظيم الاستفادة.
الحقيقة أن المتحف المصري الكبير يمثل اليوم أداة تسويقية من الطراز الأول لمصر. فموقعه الفريد عند سفح الأهرامات يمنحه طابعًا استثنائيًا يجمع بين التاريخ والجغرافيا، وتصميمه المعماري المذهل يجعله أيقونة للحداثة المصرية. أما طريقة العرض التفاعلية للآثار، التي تعتمد على أحدث تقنيات الصوت والصورة والذكاء الاصطناعي، فتجعل الزائر يعيش تجربة حضارية لا تُنسى. هذا المزج بين الأصالة والتجديد هو ما يمنح مصر فرصة لتضاعف أعداد السائحين إلى ثلاثين وربما خمسين مليونًا خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعني طفرة في الدخل القومي وفرص العمل والنشاط الاقتصادي.
ولتحقيق أقصى استفادة من هذا الحدث التاريخي، ينبغي أن تتحرك الدولة والقطاع الخاص والمجتمع في اتجاه واحد. فالدولة مطالَبة بإطلاق حملة تسويقية مستمرة تحت شعار “مصر… الحضارة التي لا تنتهي”، وتطوير البنية التحتية والخدمات السياحية حول المتحف وربطها بوسائل نقل حديثة. كما يجب إنشاء هيئة مستقلة لإدارة العلامة السياحية المصرية وضمان استدامة الترويج. أما القطاع السياحي فعليه أن يصمم برامج تجمع بين زيارة المتحف والمعالم الأخرى، وأن يحول المكان إلى مركز للفعاليات والمؤتمرات الدولية، مع رفع مستوى التدريب للعاملين في السياحة بما يواكب التوقعات العالمية.
ويبقى المواطن المصري طرفًا رئيسيًا في المعادلة. فالسائح لا يتعامل مع المؤسسات، بل مع الناس. نظافة الشوارع، والابتسامة في الوجه، واحترام الزائر — كلها تفاصيل تصنع الفارق في الانطباع النهائي. إذا تعلمنا أن كل سائح يدخل مصر هو استثمار متحرك ومصدر رزق للوطن، فسيتحول حبنا لبلدنا من شعور داخلي إلى سلوك حضاري يومي يعزز صورتنا عالميًا.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس نهاية مشروع، بل بداية مرحلة جديدة لمصر في عالم السياحة والاقتصاد والثقافة. إنه رسالة واضحة بأن مصر تعرف كيف تستثمر تاريخها، وكيف تستخدم حضارتها كقوة ناعمة تدعم تنميتها المستقبلية. وإذا أحسنا البناء على هذا الحدث الفريد، فسيصبح المتحف ليس فقط بوابة للماضي، بل جسرًا نحو مستقبل أكثر ازدهارًا وتألقًا.
تحيا مصر… بلد الحضارة وبلد المستقبل.













