رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
ياسر هاشم
ads
اخر الأخبار
أحمد المرشد

أحمد المرشد

لحظات العشق مع شروق وغروب النيل

الجمعة 18/نوفمبر/2016 - 11:37 ص
طباعة

يعلم الإنسان المصري البسيط أن بينه وبين النيل وحدة مصير مشترك، فهو ابن النيل الشرعي، فبشرته السوداء هي قطعة من طمي النيل منذ الأزل، ولكنه مع هذا يناجي النيل من يسير علي ضفتيه: يا أيها السائر علي ضفافي، أيها الغافل عن عظمتي ، أيها الشارب من مائي،  أيها المنتظر لخيري، ما كنت أصلك اليوم هكذا وديعا رقراقا إلا بعد قصة صراع طويل بينه وبين أجدادك من المصريين البسطاء، لقد حاولوا كثيرا ترويضي أنا النهر البكر الناضج بالحياة.

وفي المقابل،  وقف الإنسان المصري البسيط لألاف السنين علي شاطئ النيل في أماكن مختلفة ليسأل نفسه :"ياتري من أين تأتي هذه المياه؟".. من بئر عميقة أم من جبل عال، أم من أمطار غزيرة..وهل هناك بشر مثله يمتعون أيضا بخيرات هذا النهر ويعلمون أولادهم وزوجاتهم مدي أهمية  الحفاظ علي النيل لاستمرار حضاراتهم.. الإجابة جاءت عبر استكشافات فرعونية كثيرة من خلال رحلات سجلتها كتابات محفورة في مقابر الفراعنة.

استمر حلم اكتشاف الشمال للجنوب يداعب خيال المصريين، فالنيل  هو حياتهم وهم دائمو التفكير والتطلع لهذا المجهول بالنسبة لهم. ولهذا، اهتم محمد علي والي مصر بالاتجاه جنوبا وكانت تحدوه امال عظيمة في اكتشاف أسرار النهر ومن أين يأتي. وساهمت مهمات وبعثات محمد علي في أن يشعرسكان  كل دول النهر من المنبع وحتي المصب في أنهم بحاجة ماسة لتقارب إنساني وأنهم لابد أن يتجمعوا ويتحدثوا عن هذا النهر وكيف يحمونه ويتقاسمونه لخيرهم جميعا.

إنه نهر النيل، الذي يجد الإنسان في  فجر وغروبه  إنه  أمام عظمة الخالق في خلقه، وعندما ينظر الإنسان الي لحظات شروق  الشمس علي ضفافه، تنتابه  مشاعر عشق وحب لمياهه الصافية، فشروق الشمس علي سطحه تبشر بقدوم يوم جديد، باستمرار الحياة التي هي جزءا من هذا النهر الخالد. أما غروب الشمس عن صفحة النيل، فيعني فرصة للعشاق للجوء إليه مهرولين ليبثوا بعضهم بعضهم كلمات العشق والهوي. 

أنه نهر النيل، الذي تتلألأ مياهه مع اختلاف أوقات النهار، لتبدأ باللون الذهبي  ثم تتحول الي الفضي، والبعض يراه بلون الطمي،  حتي يأتيه بالليل ليتلون  بالأضواء الساطعة من علي أجنابه في مشهد يشعر الجالس علي ضفتيه بأنه يعيش في الخيال . خيال يكسبه  مذاقا خاصا بكل مدينة وقرية يمر بها النهر. وكما كانت كل مدنية تكتسي بلون مياهه، فقد ا ارتبط ارتباطا وثيقا بعادات و تقاليد و أساطير المصريين على مر العصور : الفرعونية و البطلمية و الرومانية و الاسلامية، ولهذا آلهم الشعراء و الأدباء و العشاق . 

من يجلس علي ضفاف النيل تتجسده مشاعر روحانىة مما يبعث في قلبه الطمأنينة ، سواء جلس صباحا أم مساء، وقت الشروق أو الغروب ، وقت الظهيرة أو عصرا، في يوم صيفي حار أم شتوي دافئ ، فلابد أن تتسرب السكينة لقلبه، خاصة عندما تسقط الشمس أشعتها علي مياهه الصافية فتجعل من المياه لونا ذهبيا متلألأ . فمياه النهر المترقرقة تسرب الي نفس ضيفه سعادة تجعله كمن يطير في السماء، لتتعانق روحه مع طيور النهر في مشهد لا يتكرر سوي علي ضفتي نهر النيل، مشهد كفيل بأن يغسل الإنسان وهو يتابعه همومه وأسقامه، ويعوضها حبا  وأملا ، فمياه النهر تجري وهكذا روح الإنسان تجري معها.. هذه المياه العذبة تشعر زائرها بطيبة أهل مصر وجمال أرضها وفتنتها وسحرها، فسحر الأرض يتسرب لكل من يعيش علي النهر، ليكتسي وجه المصريون بلون النهر، حتي اشتهروا باللون النيلي نسبة إليه.

ولعلي وأنا اكتب عن النهر وسحره وصفائه، استشهد ما قاله غيري ومنهم الدكتور أحمد فنديس في " نهر النيـل .. بين الأغانى والأمانى "، فهو جمع تقريبا كل ما قيل عن النهر من أشعار وأغاني، حيث انسابت علي ضفاف نهر النيل الخالد أعذب الألحان المصاحبة لأرق الكلمات التى شكلت أجمل الأغنيات ومن أشهر ما لحن وغنى موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب تلك القصيدة الخالدة التى أبدعها الشاعر العظيم الراحل محمود حسن إسماعيل وأعنى بها قصيدة" النهر الخالد " عندما قال "واهب الخلد للزمان وساقي الحب والأغاني".. هذا النيل الذي عرف بأنه أشهر "موصل جيد للحضارة" خاصة عندما  يتحول إلى أجمل وأطول قيثارة تمتد بطول مصر لتسقي شعبها الفنان أحلي الأنغام، فهو دائما مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال .

حقا أبدع الدكتور الفنديس في " نهر النيـل .. بين الأغانى والأمانى "، خاصة عندما كتب يقول "وعلي مر الزمان يسافر النيل: من الجنوب إلي الشمال ومن السماء إلي الأرض ومن الأرض الي السماء يحمل في جعبته زاده الجميل المؤلف من السحر والعطر والظلال ، ففوق صفحته أودعت أم موسى عليه السلام وليدها الرضيع أمانة في عنقه فحافظ عليه حتى رده الله إليها.. وغير بعيد عن مياهه اجتمع السحرة ليباروا موسي بسحرهم فغلبهم أجمعين بأمر ربه .. كما أن منظر الشروق أو الغروب عند شاطئيه هو السحر بعينه..وكثيرا ما حملت مياهه الطاهرة سفن الفراعنة وهي تحمل البخور والعطور كما أن ماءه عنبر غنّى له العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ : "يا تبر سايل بين شطين ياحلو يا اسمر لولا سمارك جوه العين ما كان تنور" . 

يعجني جدا قول المصريين إن  نهر النيل يحب بلدهم وهم أيضا  يحبونه ويرتبطون به أكثر من حبه لأي بلد  أو شعب آخر، بل أن النيل هو المدافع عن مصر والمصريين،  هذا ما نقله  محمود حسن إسماعيل عن هذا النهر الخالد : "أنا النيل مقبرة للغزاة ..أنا الشعب ناري تبيد الطغاة..أنا الموت في كل شبر إذا عدوك يا مصر لاحت خطاه"..لقد أبدع شاعر مصر في الحديث عن نيلهم العظيم، حيث صوره خالد أبد الدهر فيما تباد الجبال والأراضي من حوله، فالنيل هو التاريخ والجغرافيا.

وعن الجغرافيا والمكان والقوة، نستعيد أبيات محمود حسن إسماعيل في رائعته "النهر الخالد"..فهو يخاطب المصريين وكل محبي النيل: "شابت علي أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال"، فالشاعر يلمس حقائق جغرافية وحضارية عديدة،  فالليالي تشيب علي ضفاف النيل وهو أبدا فتى يافع فى عنفوان شبابه.. ليس الليالي فقط، ولكننا نري أيضا الجبال يضيع عمرها، هذا الكلام الرائع يرتبط  بحقيقة جغرافية،  فذرات تربة النيل  الخصبة ما هي إلا نتائج تفتيت مياه الأمطار لصخور هضاب المنابع،  تلك الصخور النارية في هضبة أثيوبيا التى تفتتها قطرات المطر لترسبها سهلا فياضا  خصبا علي ضفافه الكريمة. 

أما عن الحياة، فيصوره محمود حسن إسماعيل بقوله: "ولم يزل يسكن الديارَ و يسكب النور للحياري" ويقصد هنا أن النهر الخالد وهو يجرى في ديارنا فإنه ينير لنا حياتنا، هذه هي حقيقة ومجازا في نفس الوقت، لماذا؟.. فقط ولدت علي ضفافه أول حضارة في العالم أنارت الطريق لكل الحائرين بظهور أول الموحدين قبل الأديان السماوية وهو إخناتون .. وحديثا لأنه ينير الدنيا بالكهرباء المولدة من مياهه بعد اندفاعها من السد العالي. 

لم يكتف الشاعر المصري بحديثه الحقيقي والمجازي كما سبق وأسلفنا عن نهر النيل، فيتقترب وهو يجلس علي شاطئه أكثر وأكثر من النهر ليسمع ما  بينه وبين الأشجار والأزهار من حوار وينقله لنا في رائعته الشعرية :" مسافرٌ زادهُ الخيالُ .. والسحرُ والعطرُ والظلالُ\ظمآنُ والكأسُ في يديه .. والحب والفن والجمالُ\سمعت في شطك الجميل\ ما قالت الريح للنخيل\يسبح الطير أم يغنى \و يسكب الحب للخليل\وأغصن تلك أم صبايا \شربن من خمرة الأصيل".. فالريح تستريح من طول سفرها بالاستلقاء علي أوراق النخيل العالي ، حتي تبوح بهمومها،  فينصحها النخيل بالارتماء في أحضان النيل و بين أمواجه.. ثم يبدع الشاعر بتشبيهه أغصن الأشجار التى تميلها الريح ناحية المياه بصبايا يشربن من خمرة الأصيل، وهو المعنى ذاته الذي رددته "أم كلثوم" فى أغنية شمس الأصيل عندما غنت : "شمس الأصيل دهبت خوص النخيل يا نيل تحفة ومتصورة في صحبتك يا جميل".. لقد دفعنا الربط بين كلمات "النهرالخالد" و"شمس الأصيل"الي الانتقال بسرعة الي ما كتبه بيرم التونسي وأنشدته أم كلثوم وهو ما يسمعه المصريون حتي يومنا هذا، حيث نادرا ما يسمعون "النهر الخالد" إلا في المناسبات.

وأنا أيضا أميل مع المصريين، لم ولن أمل من سماع "شمس الأصيل"، فاأنا أراه فجر كل يوم أو هكذا أتخيل نفسي واقفا أمامه وواقعا في حبه، فما أبدع من تكرار كلمات بيرم التونسي :شمس الأصيل ذهبّت خوص النخيل يا نيل\تحفة ومتصورة في صفحتك يا جميل\والناي على الشط غنى والقدود بتميل\على هبوب الهواء لما يمر عليل

يا نيل أنا واللي احبه نشبهك بصفاك\لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك\وصفونا في المحبة هو هو صفاك\ما لناش لا احنا ولا انت في الحلاوة مثيل

انا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا\مطرح ما يرسى الهوى ترسى مراسينا\والليل إذا طال وزاد تقصر ليالينا\واللي ضناه الهوى باكي وليله طويل

اناحبيبي يا نيل غيبين عن الوجدان\يطلع علينا القمر ويغيب كأنه ما كان\بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان\على سواقي بتنعي ع اللي حظه قليل يا نيل

وبالإضافة الي "النهر الخالد" و"شمس الأصيل"، كان لمياه النيل العذبة والصافية سببا في إلهام كل شعراء مصر تقريبا، فلم تكد تقترب ذكرى عيد وفاء النيل حتي كتب أمير الشعراء أحمد شوقي رائعته " النيل نجاشى"، ليصور النيل شابا جميلا وحياة مصر والمصريين :"النيل نجاشى حليوة أسمر \عجب للونه دهب و مرمر \أرغوله فى إيده يسبح لسيده\حياة بلدنا يا رب زيده\قالت غرامى فى فلوكة و ساعة نزهة ع الميه\لمحت ع البعد حمامة رايحة على الميه و جايه\وقفت انادى الفلايكى تعالى من فضلك خدنا\رد الفلايكى بصوت ملايكى قال مرحبا بكم مرحبتين دى ستنا و انت سيدنا\جات الفلوكة و الملاح و نزلنا و ركبنا\حمامة بيضا بتفرد جناح تودينا و تجيبنا\و دارت الالحان و الراح و سمعنا و شربنا\صلح لى قلوعك يا ريس صلح لى قلوعك يا ريس \هيلا هوب هيلاهيلا هوب هيلا".

وإذا كنا تحدثنا عن النيل، فيجب الإشارة الي رائعة فريد الأطرش ومأمون الشناوي في  "الربيع"..

كان النسيم غنوة والنيل يغنيها\وميته الحلوة تفضل تعيد فيها\وموجه الهادي كان عوده ولون البدر أوتاره\يناغي الورد وخدوده يناجي الليل وأسراره\وأنغامه بتسكرنا أنا وهو\أنا وهو مافيش غيرنا .. مافيش غيرنا. فالنيل تحول الي مغني ويتغني بميته الحلوة، ليس هذا فقط، فموج النيل تحول الي آلة العود الموسيقية.

يالله علي صنع الخالق جل في علاه في هذا النهر الذي قال عنه الحبيب المصطفي في حديث البخاري ومسلم عن الإسراء والمعراج قولُه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ "ثُمَّ رُفِعْتُ إلى سِدرة المُنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلال هَجَر، وإذا ورقُها مثل آذان الفِيلة، قال: هذه سِدرة المُنتهى، وإذا أربعة أنهار ، نهران باطِنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطِنان فنهران في الجنّة وأما الظاهران فالنِّيل والفُرات"، وهذا ما كنا نقصده بالدين والتاريخ عندما تحدثنا عن الجغرافيا والتاريخ. 

إنه نهر النيل،  ففيه جلسات  الأحبة وركنهم الظليل علي شاطئيه، وبمائه يرتوي كل ظمآن، من ماء النهر ، الذي وصفه رسولنا الكريم  بأنه النهر الظاهر وربما يفسر هذا مقولة المصريين "من يشرب من مائه يعود له مجددا" فمائه تنزل من السماء ، ولم لا، فمياه منابعه تتساقط من الجنان العلي .

إرسل لصديق

ads
ads

تصويت

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟
ads
ads
ads

تابعنا على فيسبوك

تابعنا على تويتر

ads
ads