طباعة
sada-elarab.com/781085
تعود علينا ذكرى السادس من أكتوبر كل عام، حاملة عبق البطولة وشذا الفداء، لتروي للأجيال قصة شعب آمن بوطنه، وجيش عقد العزم أن يستعيد كرامته وأرضه مهما كلفه الثمن. إنها ذكرى المجد والنور، ذكرى الرجال الذين صدقوا الله فصدقهم، فكتبوا بدمائهم أبهى فصول التاريخ الحديث في ملحمة ستبقى خالدة ما بقيت مصر على وجه الأرض.
كانت حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 معجزة عسكرية وسياسية بكل المقاييس، غيرت المفاهيم الاستراتيجية في العالم، وأعادت للإنسان المصري والعربي ثقته بنفسه بعد سنوات من الجراح التي خلفتها نكسة 1967. فبإرادة من حديد، وإيمان لا يتزعزع، تحطمت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي كان يقال إنه “لا يُقهر”، وسقط خط بارليف الذي شُيّد ليكون جدارًا منيعًا أمام إرادة المصريين.
في الساعة الثانية ظهر السادس من أكتوبر، انطلقت صيحة النصر “الله أكبر” من حناجر عشرات الآلاف من الجنود المصريين، فزلزلت الأرض تحت أقدام العدو، ودوّت في سماء الوطن إيذانًا ببدء أعظم عملية عبور في التاريخ العسكري الحديث. عبرت القوات قناة السويس في دقائق معدودة، ودمرت مئات النقاط الحصينة، لتثبت أن الإيمان والعقيدة والروح الوطنية يمكن أن تصنع المستحيل.
ولأن النصر لا يولد من فراغ، فقد كان وراءه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكتبوا أسماءهم بأحرف من نور في سجل الخالدين.
فمن هؤلاء الأبطال الرقيب محمد حسين محمود سعد، أول شهيد في حرب أكتوبر، الذي استشهد في لحظة العبور ذاتها يوم السادس من أكتوبر، ليكون أول من افتتح طريق المجد والشهادة.
ويأتي بعده اللواء شفيق متري سدراك، أول الضباط الشهداء، الذي خاض معارك 1956 و1967، ثم قاتل ببسالة في أكتوبر حتى استشهد وهو يتقدم قواته في عمق سيناء. نال وسام نجمة سيناء تكريمًا لبطولته التي جسدت وحدة الدم المصري بكل أطيافه.
أما الشهيد الرائد طيار عاطف السادات، شقيق الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقد كان أحد نسور الجو الذين شاركوا في الضربة الجوية الأولى. أصر على أن يكون في مقدمة الطلعات رغم خطورتها، فهاجم مواقع العدو في “المليز” و”أم مرجم” حتى استشهد مع قائده زكريا كمال، ليخلد التاريخ اسمه كنموذج للفداء.
ويبقى الشهيد اللواء مهندس أحمد حمدي، نائب مدير سلاح المهندسين، رمزًا للعزيمة التي لا تلين. لم يغادر مواقع الكباري رغم القصف الإسرائيلي العنيف، وظل يعمل مع جنوده لإعادة بناء الجسور حتى أصابته شظية أودت بحياته. لذلك لم يكن غريبًا أن يُطلق اسمه على النفق الذي يربط سيناء بالوطن الأم، ليبقى جسده تحت الأرض وجسوره تعانق السماء.
ولا يمكن الحديث عن بطولات أكتوبر دون ذكر الأسطورة العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي، قائد المجموعة 39 قتال، التي أرعبت العدو بعملياتها الجريئة خلف خطوطه. كان قائدًا مقاتلًا عاش وسط جنوده واستشهد بينهم في 19 أكتوبر 1973، رافعًا راية النصر حتى آخر لحظة.
ويأتي العقيد إبراهيم عبدالتواب قائد ملحمة الصمود في “كبريت”، الذي واجه الحصار والقصف الإسرائيلي لأكثر من ثلاثة أشهر، مؤمنًا بأن الدفاع عن كل ذرة من أرض مصر واجب مقدس. ظل يقاتل حتى أصابته شظية دانة مدفع في يناير 1974، بعد أن جسّد مع رجاله أروع صور التضحية والصبر والثبات.
أما الجندي محمد عبدالسلام العباسي من أبناء الشرقية، فكان أول من رفع العلم المصري على تراب سيناء بعد عبور القوات المصرية قناة السويس، ليعلن للعالم أن مصر استعادت أرضها وعزتها. ذلك العلم كان راية النصر التي خفقت فوق الدشم المحصنة، حاملة دماء الشهداء وتضحيات الأبطال.
تلك النماذج ليست إلا جزءًا من سجل طويل من البطولات، التي سطّرها الآلاف من أبناء هذا الوطن، من الضباط والجنود، من المهندسين والمقاتلين، من نسور الجو وسادة البحر، الذين صاغوا بدمائهم أغنية العبور، وصنعوا فجر النصر الذي غير وجه الشرق الأوسط.
واليوم، ونحن نحتفل بالعيد الثاني والخمسين لانتصارات أكتوبر، لا نحيي ذكرى الحرب فقط، بل نُجدد العهد على أن نحافظ على ما تحقق، وأن نستكمل مسيرة البناء والتنمية في ظل قيادة تؤمن بأن الدفاع عن الوطن لا يكون بالسلاح وحده، بل بالعلم والعمل والإنتاج.
ستظل حرب أكتوبر رمزًا للإرادة المصرية التي لا تُقهر، وستبقى صيحة “الله أكبر” خالدة في وجدان الأمة، تذكرنا دومًا بأن من صدق الله صدقه الله، وأن دماء الشهداء كانت وما زالت الزاد الذي يُنبت من أرض مصر حياةً ونصرًا وخلودًا.