فن وثقافة
وداعًا «عندليب الأغنية البحرينية» محمد علي عبدالله
الخميس 04/يناير/2018 - 03:17 م

طباعة
sada-elarab.com/77781
بكل حسرة ودّع الوسط الفني عندليب الأغنية البحرينية الفنان الكبير محمد علي عبدالله، بعد أن عانى لفترة طويلة من عارض صحي صاحبه ألم وتعب شديدان، وصعوبة في الحركة والكلام، لتفقد الساحة الفنية البحرينية والخليجية فنانًا لا يمكن أن تنساه الذاكرة الفنية والوطنية لما قدمه من أعمال مميزة داعبت القلوب وألهمت النفوس.
فنان ذكي، مُلهم، مُعبر، صادق مع نفسه وجمهوره لما تحمله أعماله الغنائية من صدق وإحساس وجمال. فنان غرّد بصوته العذب بـ«شقد أنا ولهان»، و«كم سنة وشهور»، و«يعني انتي ما تدرين»، و«طير الحمام»، و«عنوا على البال» و«أم البلادين». وغيرها من الروائع الفنية التي قدمها هذا الفنان الصادق المحب، والذي كانت أعماله عنوانًا للعشاق والمحبين حتى ذاع صوته الشجي في وجدان كل محبيه.
فقدنا أحد أعمدة الفن الموسيقي والغنائي، وأحد أبرز الفنانين والملحنين البحرينيين الذين قدموا اللون الحديث للأغنية البحرينية وساهموا في انتشارها.. المرحوم محمد علي عبدالله فنان ملأ الدنيا حبًا وعشقًا وتعلمنا منه الكثير.. هذا الفنان الذي حوّل الألم الى أمل، ورغم كل ما فيه إلا أن ابتسامته كانت لا تفارقه ومحبته وسؤاله عن الجميع حتى آخر يوم من حياته.. ولا أنسى تلك اللحظة عندما زرته قبل يوم من وفاته وبرغم ألمه إلا إنه كان دائم السؤال وإرسال التحيات للجميع. ولا نملك أمام إرادة الله إلا أن نرفع كفوف الدعاء لله سبحانه وتعالى أن يغمد روحه الجنة ويصبر زوجته وأهله ومحبيه، وسنظل بوفاء نستذكر هذا الصوت والفنان الكبير بأخلاقه قبل فنه، مستعرضًا معكم أبرز محطات حياته لنتذكره بوفاء لما قدمه للساحة الفنية..
البداية..
في العام 1948 ولد الفنان محمد علي عبدالله بمدينة المنامة، إلا أن ظروف عمل والده الذي كان يعمل في القنصلية البريطانية بدبي، جعلته ينتقل للعيش في الإمارات منذ نعومة أظافره وحتى التاسعة من عمره، ليعود مع أسرته إلى البحرين بعد أن اشتد المرض على والده الذي لم يمهله طويلا، ففقد حنان الأب مبكرا وذاق مرارة اليتم وهو الابن الوحيد لعائلته التي انتقلت للعيش في المحرق بعد ذلك، فنال رعاية واهتماما من جانب والدته التي كرست حياتها له.
في البداية، التحق بمدرسة رأس الرمان حتى الصف السادس ابتدائي، ولظروف عائلته الصعبة قرر ترك مقاعد الدراسة مبكرا ليلتحق بشركة نفط البحرين (بابكو) التي قامت بتدريبه وتدريسه حتى استمر في العمل معهم بقسم الميكانيكا لمدة 20 سنة، بعدها انتقل للعمل في ميناء سلمان، ثم عمل بوزارة الإعلام بمسمى مخرج بإدارة الثقافة والفنون آنذاك لمدة خمس سنوات حتى ترك العمل الحكومي واتجه إلى الأعمال الحرة.
طفولة محاطة بالفن
منذ طفولته وهو عاشق للأغاني العدنية، ومولع بأصوات الفنانين محمد مرشد ناجي وأحمد قاسم وغيرهم من الفنانين الذين ذاع صيتهم في تلك الفترة، كما كان معجبا بكارم محمود، ومستمعا إلى الأغاني الهندية، ومبهورا بآلة الأورغ الهندية، وكان يستمع إلى الأغاني عن طريق الراديو الموجود في منزلهم، والذي تنطلق منه أصوات الفنانين، ولعل الحي الذي يسكنه في المحرق ساهم بدور كبير في تعلق محمد علي بالموسيقى لما يحتضنه هذا الفريج من فرق موسيقية وفنانين وعازفين مولعين بالفن والموسيقى، وكانت أول خطوة له في هذا المجال في العام 1957 عندما انتظم بـ(فرقة ندوة البحرين الموسيقية) التي أسسها الفنان المرحوم عبدالواحد عبدالله في المحرق، وهي من أوائل الفرق الموسيقية في البحرين، فبدأ معهم كعازف على آلة (الأوكورديون)، حيث يعتبر الفنان محمد علي عبدالله أول فنان بحريني يعزف على هذه الآلة مع فرقة موسيقية، ولكن كيف تعلم محمد هذه الآلة؟
يتذكر فناننا رحمه الله عليه أنه كان معجبا بهذه الآلة التي كان يشاهدها في أفلام السينما الهندية، وفي البداية حاول العزف على آلة الأورغ الهندية، إلا أن الأوكورديون نال اهتمامه الأكبر، وكانت تجتذبه الأصوات التي تخرج منها، فبدأ يعزف على هذه الآلة مستمعا دون أن يعلمه أحد على ذلك، وكانت بذرة الموهبة موجودة وتكبر معه يوما بعد يوم ساعد ذلك على تعلمه بسرعة كبيرة، وأصبح يتقن الكثير من المقطوعات الموسيقية التي تنال إعجاب الفنانين، ويذكر رحمه الله أن أول (أوكورديون) أهداه إياه الفنان المرحوم عبدالواحد عبدالله الذي كان يلمس فيه الإحساس والذوق الفني، وقد دفعه لتعلم النوتة الموسيقية مع عازف هندي، إلا أن المشكلة التي كانت تواجههم أن هذه الآلة لا تتوافق نغماتها مع النغم الشرقي الذي كانت تؤديه الفرقة في حفلات الأعراس والمناسبات التي يشاركون فيها، فانتقل للعزف على آلة الجيتار، ثم الكمان، وأحيانا يشارك بالعزف على الإيقاع، وفي تلك الفترة بدأ يتعلم العود مع زميله الفنان المرحوم ماجد عون مع الفنان علي المالكي الذي كان يعلمه خلسة دون أن يعلم الفنان عبدالواحد عبدالله، والذي كان صارما في قيادته وإدارته للفرقة، واستمر الفنان محمد علي عبدالله عازفا مع هذه الفرقة، حتى انتقل بعد ذلك إلى (فرقة أسرة هواة الفن) في العام 1958. وهنا بدأ تعلقه بالموسيقى يكبر خصوصا وأن هذه الفرقة كانت تضم أبرز الفنانين ولها الكثير من المشاركات، وكانت تقيم الحفلات والمهرجانات التي تصقل مهارة العازف وتقدم له الشيء الجديد، إضافة إلى تواصله مع الفنانين ورؤيته للعديد منهم بعدما كان يستمع أصواتهم فقط عبر الراديو، وبعد أن انقسمت الأسرة انضم إلى فرقة النجوم، كما كان عضوا في الأنوار وفرقة أوال.
كيف أصبح مطربًا؟
كان يدرك محمد أن بداخله موهبة فنية، إلا أنه لا يعرف من أين وكيف يبدأ، وكان يدندن بصوته بين وقت وآخر ببعض الأغاني اليمنية المولع بها دون أن يشعر بحلاوة هذا الصوت وتميز خامته الفنية عن الأصوات الموجودة في ذلك الوقت، إلا أنه في أحد الأيام قام بتسجيل صوته في جهاز تسجيل واستمع إليه، فاستحسن أداءه، فتملكه شعور مختلف وبدأ يتخيل نفسه مطربا يقف على المسرح ويطرب الجماهير، فقرر أن يحول مجاله الموسيقي من عازف إلى مطرب، وصادف في تلك الفترة أن استضافت (فرقة أسرة هواة الفن) الفنان اليمني محمد الصقاب صاحب الأغنية المعروفة (لا بوك ينفع ولا شكوتي)، وكان محمد علي معجبا به، وقام بملازمته طوال فترة تواجده في البحرين، وحاول بشتى الطرق أن يتعلم منه ويستفيد من تجربته حتى اقترح عليه الفنان اليمني أن يقدم أغنية (الا يا ريت)، وقد قام الفنان محمد علي عبدالله بتلحينها وغنائها، لتلقى هذه الأغنية نجاحا كبيرا وتحقق شهرة كبيرة له جعلت منه مطربا معروفا، إلى جانب مطربي فرقة أسرة هواة الفن في تلك الفترة مثل الفنانين يوسف مشائي ونجم عبدالله وأحمد ياسين وغيرهم، ليواصل حضوره ومشاركته مع الفرقة مطربا في الحفلات والأعراس.
الكويت.. بوابة الشهرة والنجاح
كانت الكويت في منتصف الستينات تزخر باهتمام كبير في مجال الفن والموسيقى، حيث كانت تعتبر بوابة ذهبية للفنانين الذين يرغبون في دخول عالم الشهرة والفن، وكان يحلم أن يذهب للكويت ويسجل مع الفرقة الموسيقية التي ذاع صيتها بين الفنانين، فقرر أن يذهب إلى هناك ويخوض تجربة جديدة في هذا المجال، وكان في تلك الفترة يعمل في ميناء سلمان، فينتظر إجازته السنوية ليذهب إلى الكويت، إلا أنه في المرة الأولى لم يجد أي اهتمام ولم يسمح له بدخول الإذاعة، فرجع وهو حزين ولكنه لم ييأس، وأعاد الكرّة مرة ثانية وكذلك باتت بالفشل ولم يسمح له بدخول الإذاعة والتسجيل، فرجع وهو في حيرة من أمره، إلا أن الأمل الموجود بداخله والإصرار على النجاح كان دافعا ليتغلب هذا الإحباط الذي اعتلاه، وكانت الثالثة ثابتة كما يقولون فشد الرحال للكويت يرافقه صديقه الفنان والملحن المرحوم عيسى جاسم الذي كانت له صلة قرابة ونسب مع عدد من العائلات الكويتية هناك، وفتح القدر أبوابه له وسمح له بدخول الإذاعة والالتقاء بلجنة اختيار النصوص والقائمين على الفرقة، وقدم نفسه لهم بأنه مطرب من البحرين ويرغب في تسجيل أعماله الغنائية مع الفرقة، فقدم نصوصه الغنائية لاعتمادها من جانب اللجنة، إلا أنهم لم يجيزوا النصوص التي تقدم بها، وانتابه شعور بالحزن واليأس، إلا أنه من حسن حظه كان من بين أعضاء اللجنة الفنان الكويتي يحيى أحمد، وهو من أصول بحرينية، وكان زميل الفنان محمد علي عبدالله في مرحلة الدراسة، فقدم له عددا من النصوص المتوافرة لدى اللجنة لاختيار ما يناسبه منها، فاختار نص (كم سنة وشهور) الذي قام بتلحينه، والآخر نص (الحبيب الذي هويته)، والذي قام بتلحينه الملحن عيسى جاسم، وأثناء ليلة واحدة قاموا بتلحين هذه النصوص بعد أن أعجبت اللجنة بهذه الأعمال، فتم تسجيلها لصالح إذاعة الكويت، وأذيعت لتحقق هذه الأعمال نجاحا كبيرا بالذات أغنية (كم سنة وشهور) كلمات سليمان المضف، وهي التي عرفت الجمهور بفنان قادم بقوة اسمه محمد علي عبدالله، ففتحت له هذه الأغنية أبواب الشهرة والنجاح.
رحلة القاهرة
بعد إحساسه بطعم النجاح الذي حققه، وبعد انتشار اسمه كمطرب كان بداخله دافع بصقل هذه الموهبة بالدراسة الأكاديمية، وكانت القاهرة في تلك الفترة هي حلم كل فنان والواجهة التي يقصدها كل مغرم وعاشق ومحب للفن والموسيقى، فاتخذ قراره بعد أن قدم استقالته من الميناء ونال مستحقاته المالية وهو متوجه للقاهرة يدفعه حلم الدراسة الموسيقية والدخول في هذا عالم الأضواء والشهرة، إلا أن هناك مشكلة كبيرة واجهته لم يعد لها حسابا، عندما علم أن فترة الدراسة هي 7 سنوات، إضافة إلى أن تكلفة الدراسة تفوق مدخراته ولن تكفيه..
وأمام هذه المعضلة لم يقف مكتوف الأيدي، بل قرر أن يحول مساره الأكاديمي ولم يتنازل عن حلم القاهرة! فدخل معهد الإذاعة والتلفزيون ودرس لمدة ثلاث سنوات تخصص إخراج، لينتظم بعد عودته موظفا بوزارة الإعلام لمدة خمس سنوات بإدارة الثقافة والفنون، وهو مجال بعيد عن مجال دراسته.
أعماله الفنية
في مشواره الفني الكبير والمميز قدم هذا الفنان الرائع الكثير من الأغاني الفنية المتميزة التي مازالت تطرب الجميع لما تتميز من صدق في الكلمة وروعة اللحن والأداء الجميل، وقد قدم أكثر من 100 أغنية متنوعة ما بين أغانٍ وطنية وعاطفية وابتهالات دينية، وأثناء مشواره الفني تعاون مع عدد من أبرز كتّاب الأغنية، وقد تميزت بشكل كبير الأعمال الغنائية التي تعاون فيها مع معالي الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة، وقد قدم للساحة الفنية 6 أشرطة أغلبها كانت من إنتاج المرحوم أحمد جمال (مؤسسة صوت وصورة)، قدم فيها أروع أعماله الفنية التي مازال الجمهور يتغنى بها مثل «اشقد أنا ولهان»، «يعني انتي ما تدرين»، «الله كاتب»، «اطري عليكم»، «طير الحمام»، «ادعي عليك من قلبي»، «ما بيج تحبيني غصب»، «عنوا على البال»، «على حلك تدلل» وغيرها من الأعمال الفنية الجميلة التي كانت معظمها من ألحانه، وقد توقف بعد ذلك المرحوم محمد علي عن الغناء لظروف خاصة، وكانت آخر مشاركة له عن طريق مسلسل (حزاوي الدار)، كما كان له الكثير من المشاركات في الحفلات خارج البحرين، وشارك في كل حفلات طلبة أندية البحرين في أمريكا والقاهرة والكويت، وغيرها من الحفلات الناجحة. وقد منحه جلالة الملك المفدى حفظه الله وسام البحرين من الدرجة الثانية عام 2002.
معاناته مع المرض حتى رحيله
وأثناء زيارة له للكويت في عام 2002 شعر بألم في صدره، واصابه تعب، فدخل على إثرها المستشفى لإجراء فحوصات، وخرج منها وهو يعاني من ارتفاع في الكوليسترول، فعاد إلى البحرين ليشعر بالأعراض نفسها، فخضع لتشخيص مكثف تبين من النتائج وجود تصلب في الشرايين يتطلب إجراء عملية عاجلة في القلب، وقد تكللت بالنجاح، وفي ليلة خروجه من المستشفى وأثناء احتفال محبيه وعائلته بسلامته شعر في الليلة نفسها بألم يعيق حركته وتنفسه، فانتكست حالته الصحية، واصيب بجلطة في المخ سببت له شللا نصفيا في الجزء الأيسر، وأمام كل المحاولات لإسعافه، إلا أن حالته كانت تزداد سوءا، فحظي برعاية جلالة الملك بعلاجه خارج البحرين وتوجه خلال تلك الفترة إلى ألمانيا والتشيك، وكذلك رعاية سمو رئيس الوزراء الموقر فتوجه بعدها للقاهرة والأردن والهند، إلا أن حالته كانت غير مستقرة، حتى تكررت زيارته للمستشفى وكان آخرها في نهاية شهر ديسمبر الماضي وهو في حالة نزيف ونقل للعناية القصوى حتى ودع الحياة في يوم الاثنين 1/1/2018م.
كلمة حق..
أثناء فترة مرضه كان يردد بأن مرضي كشف لي معادن الناس والتفات بعض زملاء الدرب والأهل كان يخفف عليه ألمه، ولكن حقيقة لابد أن تذكر بأن لزوجته الفاضلة التي كانت عنوانًا للوفاء والتضحية، والتي تزوجها في 17 يناير 1971م كانت خير معين وسند في كل مراحل حياته وكانت الدافع له والملهم في أعماله ومشواره الفني، وكان رحمه الله يقول في مرضه بأنه لا ينسى تضحياتها له ووقوفها بجانبه مكررًا رحمه الله بحب وعرفان لها ولصبرها وتضحياتهـا.. لقـد تعبـت معي وصبرت وتحملت الكثير.





