اخبار
كاتبة وباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية.. تستعرض كسوة الكعبة المشرفة عبر العصور
الجمعة 17/أغسطس/2018 - 10:48 م

طباعة
sada-elarab.com/110326
قال الدكتور عبد الرحيم ريحان الخبير الأثري أن الكعبة المشرفة حظيت بالاحترام منذ أقدم العصور، فقد احُتُرم مكانها حتى قبل بناء إبراهيم لها، وأرض مكة كانت مقدسة فى كل مراحل التاريخ،حيث وضع العرب أوثانهم بالكعبة ليقربوهم لله زلفى، حتى اجتمع على سطح الكعبة 360 صنمًا، وكان من ضمن مظاهر احترام الكعبة في الجاهلية إجمار الكعبة وتطيبها كنوع من النظافة والطهارة، وهي من ضمن العادات الحميدة التي داوم عليها في الجاهلية وأقرها الإسلام .
كسوة الكعبة قبل الإسلام
تقول د. شيرين عبد الحليم القبانى الكاتبة والباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية تعتبر كسوة الكعبة أحد أهم مظاهر تقديس الكعبة واحترامها، وترجع لعصور قديمة قبل الإسلام. وقد تباينت الأقـوال حول أول من كسى الكعبة المشـرفة، فقيل أن سيدنـا إسماعيل عليه السلام هو أول مـن كسى الكعبة، أو عدنان بن أد، أو أسعد الحميري تبع اليمن، أما السبب وراء عدم قيام سيدنا إبراهيم بكسوة الكعبة، فهو ربما لأنه لم يتلق سوى أمر الله تعالى ببناء الكعبة فقط، لذا فقصر عمله على بنائها دون كسوتها، أو لعله لم يجد ما يستخدمه في كسوة الكعبة من الجلد والخصف أو القماش الكثير الذي يحتاجه لكسوة الكعبة في وقت لم يجاور فيه في مكة سوى قبيلة جرهم التي وفدت إلى مكة، والتي كانت تعتمد في معيشتها على الرعي والمبادلة مع القبائل، أو ربما لأنه غادر مكة عائدًا إلى فلسطيـن بعد بنـاء الكعبة، لذا فلم يتسن له كسوتها، وعلى هذا فمن غير المستبعد أن يكون سيدنا إسماعيل هو أول من كسى الكعبة، حيث كان قد شارك أبيه في البناء، ثم أصبح بعد ذلك خادم ومتولي شئونها وسيد أهلها.
أما عدنـان بن أد، أو عدنـان بن أدد، فيقال أنه حفيد سيدنا إسماعيل عليه السلام، ويليه بخمسة أجيال كاملة، وقيل أيضًا أنه خـاف أن يُدرس الحرم، فوضع أنصابه، فكان أول من وضعها وكان أول من كسى الكعبة، وكانت تلك الكسوة من الأنطاع، ومفردها نطع وهو بساط من الأديم أي الجلد.
وأوضحت " القباني " أن أشهر الكسـوات أو الكساوى في الجـاهلية فهي كسوة أسعد الحميـري تُبّـَع اليمن حيث رُوى عن الرسـول صلى الله عليه وسلم قوله {لا تسبوا تبعًا فإنـه أول من كسى الكعبة} ويُعتقد أن كسوة تبع تلك هي أول كسوة كاملة للكعبة، وليسـت أول كسوة على الإطـلاق فقـد رُوِيَ أنـه همَّ بتخريب البيت الحرام، ثم مرض مرارًا إلى أن اعترف بحـرمة البيت، وأبـدى ندمـه على ما اعتزمه من سـوء للكعبة، وأظهر كل مظـاهر التقديس والاحترام للكعبة، ومن ضمن مظـاهر تقديسـه للكعبة كسوتـها، فرأى في المنـام أن يكسو البيت، فكساه الخصـف، ثم رأى في منـامه أن يكسـوه أحسـن مـن ذلك، فكساه المعـافير، ثم أُرى في منامـه أن يكسوه أحسن مـن ذلك، فكساه المـلاء والوصائل وبذلك اشتهرت كسوة تبع. ولم ينقطع الملك الحميرى عن كسوة الكعبة طيلة حياته.
وبعد تبع أخذ الناس يقدمون للكعبة المشرفة هدايا من الكساوى المختلفة، فيلبسونها على بعضها البعض، فكان إذا بلى ثوب وضع عليه ثوب آخر واستمر الحال على ذلك إلى أن ساد مكة "قصي بن كلاب" حيث عرض على القبائل المشاركة في كسوة الكعبة عن طريق الرفادة واستمرت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون على القبائل بقدر احتمالها حتى عهد أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم الذي كان يتاجر باليمن فأثرى في المال فقال لقـريش: "أنا أكسو الكعبة وحدي سنـة وجميع قريش سنة" لذا فقد سمي بالعدل لأنه عدل فعله بفعل قريش كلها واستمر في ذلك حتى وفاته.
أول من كسا الكعبة في الجاهلية
وتُضيف الكاتبة والباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية قيل أن أول من كسا الكعبة في الجاهلية بالديباج هو خالد بن جعفر بن كلاب، وكان قد أصاب لطيمة – وهي جمال تحمل العطر والحرير- فيها بعض الديباج، فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها، أي وضع عليها، أما أول عربية كست الكعبة بالحرير والديباج فكانت نتيلة بنت جناب، أو بنت حباب وهي أم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قد أضلت العباس صغيرًا أو أخوه ضرار، فنذرت إن هي وجدته أن تكـسو الكعبة الديباج، ولما عثرت عليه كسـت الكعبة وفاءً بنذرها، وتعتبر أيضًا أم عمر بن عبد الحكم من النساء اللاتي قمن بكسوة الكعبة بعد نتيلة أم العباس، حيث كستها شقتين من شعر ووبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة ولم يهاجر بعد .
كسوة الكعبة في صدر الإسلام
وتُشير" القباني " يعتبر العام الثامن من الهجرة نقطة تحول في التاريخ الاسلامي بصفة عام، وتاريخ كسوة الكعبة بصفة خاصة حيث قام الرسول عليه السلام بفتح مكة وتطهيرها من الكفر والأصنام والأوثان ومن ثم بدأ عهد جديد حظيت فيه الكعبة بفائق العناية، وتحولت كسوتها من الأفراد إلى الحكام. ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كسا الكعبة يوم الفتح بالثياب اليمانية وقيل أيضًا أنه كساها القباطي المصرية، وأنه أول من فعل ذلك. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تولى أمور المسلمين أبو بكر الصديق عام11هـ/632م، وقد سار على نهج الرسول الكريم في كسوة الكعبة، فقيل أنه كساها الثياب اليمانية، وفي رواية أخرى أنه كساها القبـاطي، والقبـاطي جمع قبطية، وهو ثوب من ثيـاب مصر رقيـق أبيض يُنسب للقبط. وقد أغفلت العديد من المصادر القديمة والمراجع الحديثة كسوة أبى بكر للكعبة.
ولكن من الثابت والمؤكد أن عمر بن الخطاب كسا الكعبة بالقبـاطي المصرية، حيث كان يكتب لعامله بمصر لعمل كسوة الكعبة، وكانت الكسوة من بيت المال، وكان أول من فعل ذلك وكانت المنسوجات المصرية قد امتدت شهرتها على مدى سنوات عديدة سبقت الفتح الاسلامي لمصر، حيث تذكر الروايات التاريخية أنه من ضمن هدايـا المقوقـس لرسـول الله صلى الله عليـه وسلم قطـع مـن المنسوجـات المصـرية، وربما تكون تلك الشـهرة التي حازتها المنسوجات المصرية مع جودة صنعها هو ما دفع الفاروق عمر إلى اختيارها لكسوة الكعبة المشرفة، ومما استحدثه عمر بن الخطاب أنه كان ينزع كسوة الكعبة القديمة كل سنة ويستبدل بها الكسوة الجديدة، ويوزع القديمة على الحجاج، وهذا أمر لم يحدث من قبل، حيث كانت الكسوات توضع على بعضها البعض عامًا بعد عام حتى تبلى .
وحينما تولى عثمان بن عفان سار على نهج سلفه في كسوة الكعبة القباطي المصرية. وكانت الكسوة أيضًا من بيت المال إلا أنه كساها أيضًا البرود اليمانية، بحيث أصبحت صناعة الكسوة تتم مرة في مصر ومرة في اليمن، وبذلك يكون عثمان أول من كسا الكعبة كسوتين كسوة من القباطي وكسوة من البرود اليمانية، إلا أن الكساوى عادت مرة أخرى توضع فوق بعضها البعض كما كان الحال قبل الإسلام، وحتى عهد عمر بن الخطاب ولم يُذكر لعلي بن أبى طالب أنه كسا الكعبة منذ أن تولى الخلافة وحتى وفاته، وربما يرجع ذلك لانشغاله بالحروب الداخلية والفتن، حتى أنه رضى الله عنه لم يحج وهو خليفة.
الكسوة في عهد الدولة الأموية
وتتابع الكاتبة والباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية بويع معاوية بن أبى سفيان أميرًا للمؤمنين بعد مقتل سيدنا علي كرم الله وجهه، لينتقل بذلك مركز الخلافة من الحجاز إلى الشام وقد اهتم معاوية بكسوة الكعبة، فكساها كسوتين اقتداءً بعثمان بن عفان. فكساها الديباج، وذلك يـوم عاشـوراء، بالإضافة إلى كسـوة أخرى من القبـاطي، وتلبس آخر شهر رمضان وقيل أن أول من كسا الكعبة الديباج هو يزيد بن معاوية وقيل عبد الله بن الزبير، وقيل عبد الملك بن مروان. كما قيل أيضًا أن الحجاج هو أول من كسا الكعبة الديباج.
ومن الجدير بالذكر، أن يزيد بن عبد الملك كسا الكعبة بالديباج الخسرواني- وهو أول من استحدث ذلك- وتلاه في ذلك عبد الله بن الزبير. وحينما كسى عبد الملك بن مروان الكعبة بالديبـاج، بعث به من الشام، فنُشر يومًا في مسجـد الرسول صلى الله عليـه وسـلم بالمدينة، ثم طُوى وبُعث به إلى مكة. أما هشام بن عبد الملك فقد كسا الكعبة ديباجًا من النوع الغليظ جدًا .
ولم يذكر المؤرخون أمر الكسوة بعد هشام بن عبد الملك، ولعل السبب في ذلك هو انشغال الخلفاء بأمور السياسة وازدياد الفتن والاضطرابات وضعفهم في آخر عهدهم، الأمر الذي أدى بدوره إلى قلة مواردهم، ومن ثم؛ قلة اهتمامهم بأمر الكسوة عما كان عليه في الماضي، وبالتالي أصبحوا يكسون الكعبة أحيانًا بالديباج، وأحيانًا أخرى من حلل نجران التي كانت في جزيتهم .
الكسوة في عهد الدولة العباسية
وتؤكد " القباني " لم يوجه خلفاء الدولة العباسية في بداية عهدهم اهتمامهم لكسوة الكعبة المشرفة، وذلك بسبب كثرة القلاقل والاضطرابات التي واجهتهم آنذاك وقد استمرت الدولة العباسية ما يزيد على خمسة قرون (132هـ -656هـ/749م-1258م)، وتتابع على عرش الخلافة فيها سبعة وثلاثون خليفة، وكان أول خليفة عباسي يقوم بكسوة الكعبة هو المهدي الذي حج عام160هـ/776م وقام بإهداء الكعبة المعظمة كسوة فاخرة من طراز تنيس من القباطي المصرية مكتوب عليها:"بسم الله، بركة من الله، مما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين، أصلحه الله، محمد بن سليمان أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة، على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة". وعلى كسوة أخرى مكتوب: "بسم الله، بركة من الله، لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم ابن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة".
وحينما تولى هارون الرشيد الخلافة عام170هـ/786م اهتم بصورة كبيرة بكسوة الكعبة، فسار على نهج من سبقوه في كسوتها بكسى تصنع في أهم وأشهر مدن النسيج بمصرفقد كساها عام190هـ/805م كسوة من قباطي مصر من دار الطراز في تونة مكتوب عليها: "بسم الله، بركة من الله، للخليفة الرشيد عبد الله هرون أمير المؤمنين، أكرمه الله، مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة".
ثم في عهد المأمون بن هارون الرشيد أصبحت الكعبة تكسى ثلاث كسوات، وهو أول من استحدث ذلك، فأصبحت الكعبة تكسى الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي المصرية أول رجب، والديباج الأبيض في 27 رمضان، وكان ذلك عام 206هـ/821م وفي أثناء خلافة المأمون دخل حسين الأفطس الطالبي مكة غازيًا، فقام بنزع كسوة الكعبة وكساها كسوتين من القز الرقيق، إحداهما صفراء والأخرى بيضاء، مكتوب عليها: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيتـه الطيبين الطاهرين الأخيـار، أمر أبو السرايا الأصغـر بن الأصغر داعيـة آل محمـد، بعمل هذه الكسـوة لبيـت الله الحرام، وأن تُطرح كسـوة الظلمة من ولد العبـاس". وكان يبعث بها أبو السـرايا من الكوفة إلى مكة لتكسى بها الكعبة واستـمرت الكعبـة بعد ذلك تُكسى بالكسـوات الثلاث التي استـحدثها المأمـون حتـى عـهد الخليفة العباسي النـاصر لديـن الله الذي تـولى الخـلافة مـن عـام575هـ/1179م حتى عام622هـ/1225م حيث كساها بالديباج الأخضر في بداية خلافته، ثم بالديباج الأسود في نهاية خلافته حيث اتخذ العباسيون اللون الأسود شعارًا لهم .
الكسوة في العصر الفاطمي
وتستطرد الكاتبة والباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية يعتبر حماية سبيل الحجاج وتيسير أسباب الحج للمسلمين من أهم مهام أي خلافة إسلامية، وهذا في الواقع هو الدافع الذي برر به الفاطميون فتحهم لمصر سنة358هـ/968م منادية بحق الخليفة الفاطمي في السيطرة على العالم الاسلامي كله شرقًا وغربًا، بسبب عجز الخلافة العباسية عن مداومة الجهاد ضد البيزنطيين، وانقطاع طريق الحج وتعطله، وعدم استطاعة الحجاج أداء الفريضة، ولعل هذا يفسر لنا اهتمام الخلفاء الفاطميين بكسوة الكعبة كرمز لسيطرة الخليفة الفاطمي على العالم الاسلامي، وتأكيدًا لحمايته لفريضة الحج التي تجمع شمل المسلمين من كافة أنحاء العالم الاسلامي.
حينما دخل المعز لدين الله الفاطمي مصر في 7رمضان سنة362هـ/972م، حرص على عمل ما يسـمى بشمسية الكعبة وحينما تولى العزيز بالله بن المعز لدين الله الخلافة قام بإرسـال كسـوة للكعبة، وقد كانت الكسوة الفاطمية بيضاء اللون، ويذكر لنا المقريزي من حوادث شهر ذي القعدة عام384هـ/994م في خلافة العزيز بالله الفاطمي، والتي توافق خلافة القادر بالله العباسي (381هـ-422هـ/991م-1030م) أن "يحيى بن اليمان قد ورد من تنيس ودمياط والفرما بهديته، وهي أسفاط وتخوت وصناديق مال وخيل وبغال وثلاث مظلات وكسوتان للكعبة".
وحينما تولى الحاكم بأمر الله الفاطمي الخلافة عام386هـ/996م، قام بإرسال عدة كسوات للكعبة في سنوات متتالية فقد كساها في السنة الثانية من خلافته عام387هـ/997م ثم عام 388هـ/998م، وعام389هـ/998م "وقد كُسيت الكعبة هذه السنة الشنفاص الأبيض، وهذا يعد من الغرائب، فإن الكعبة ماكُسيت شنفاص قط إلا في زمن الحاكم" ثم كساها أيضًا عام390هـ/999م، وأخيرًا عام391هـ/1000م ثم في العام الحادي عشر من خلافته (397هـ/1006م) كسا الكعبة القباطي البيض وكان الحاكم قد أمر أنه إذا ما "ذكر الخطيب اسمه في يوم الجمعة، وهو على المنبر، أن تقوم الناس صفوفًا إعظامًا لاسمه، فكان يُفعل ذلك في سائر أعمال مملكته، حتى في الحرمين الشريفين وبيت المقدس".بل إنهم كانوا "إذا ما ذُكر اسمه سجدوا في السوق وفي مواضع الاجتماع". ثم تولى الظاهر لإعزاز دين الله الخلافة بعد والده الحاكم بأمر الله. ويذكر المؤرخون أنه قام عام423هـ/ 1031م بإرسال كسوة للكعبة .
أما بالنسبة لشكل كسوة الكعبة في العصر الفاطمي، فقد أعطانا الرحالة الفارسي ناصر خسرو- الذي رافق الوفد الرسمي الخاص بإيصال الكسوة الفاطمية للمدينة النبوية- لها وصفًا دقيقًا، فقال:".....أما الكسوة فكانت بيضاء عليها شريطان بعرض ذراع، وارتفاع الكسوة بين الشريطين نحو عشرة أذرع، وفوق وتحت هذين الشريطين توجد أجزاء بنفس السمك والمقاس وبهذا الوضع بدت الكعبة كأنها مقسمة إلى ثلاثة أقسام، كل قسم عشرة أذرع تقريبًا وفق تقديري الشخصي، وعلى وجوه الكسوة الأربعة رأيت محاريب تم نسجها بالحرير الملون، وعليها زركشة بالخيوط الذهبية بالقصب وعلى كل واجهة توجد ثلاث محاريب مزركشة، ويبدو أن المحراب الأوسط هو الأكبر، أما الاثنان الآخران فمقاسهما أقل من الأوسـط وكان عـدد المحاريب المرسومة على الأجناب الأربعة كلها يبلغ اثنى عشر محرابًا.
ومن الجدير بالذكر أن الدولة الفاطمية بمصر لم تنفرد بكسوة الكعبة، ففي عام455هـ/ 1063م أثناء خلافة المستنصر بالله الفاطمي قام على بن محمد الصليحي صاحب اليمن بدخول مكة بطلب من الخليفة نفسه للقضاء على والى مكة من الهواشم، ويخبرنا ابن تغري بردي بأنه "دخل إلى مكة واستعمل الجميل مع أهلها، وأظهر العدل والإحسان، وطابت قلوب الناس له وكسا البيت الحرام الثياب البيض" وقيل أن هذه الثياب البيض كانت من الحرير الصيني، إذًا فاللون الأبيض كان شعارًا للفاطميين، مثلما كان اللون الأخضر ثم الأسود شعارًا للعباسيين ثم في عام 466هـ/1073م كسا الكعبة أبو النصرالإسترابادي كسوة بيضاء من عمل الهند وفي نفس العام "ورد إلى مكة إنسان أعجمي يُعرف بسلار من جهة جلال الدولة ملكشاه، ودخل وهو على بغلة بمركب ذهب، وعلى رأسه عمامة سوداء، وبين يديه الطبول والبوقات، ومعه للبيت كسوة ديباج أصفر، وعليها اسم محمود بن سبكتكين، وهي من استعماله، وكانت مودعة بنيسابور من عهد محمود بن سبكتكين عند إنسان يُعرف بأبي القاسم الدهقان، فأخذها الوزير نظام الملك منه، وأنفذها مع المذكور".
وفي عام 532هـ/1137م في عهد الخليفة الحافظ لدين الله الفاطمي، التي تواكب عهد الخليفة المقتضي لأمر الله العباسي، قام أحد التجار الفرس الأثرياء، يدعى أبا القاسم رامشت، بكسوة الكعبة بالحبرات. وفي عام642هـ/1244م أو 643هـ/1245م هبت ريح شديدة مزقت كسوة الكعبة وألقتها عنها، وبقيت الكعبة عارية من الكسوة، فأراد عمر بن رسول صاحب اليمن أن يكسوها، فرفض ذلك شيخ الحرم عفيف الدين منصور بن منعة البغدادي قائلاً: "لا يكون ذلك إلا من الديوان" أي الخليفة العباسي. ولم يكن عند شيخ الحرم مال لأجل ذلك، فاقترض ثلاثمائة مثقال، واشترى بها ثيابًا بيضاء وصبغها بالسواد، وركب عليها الطراز القديم الذي كان في كسوة الكعبة، وكساها بذلك".
الكسوة في العصر المملوكي وانفراد مصر بكسوة الكعبة
وتؤكد " القباني" أن العصر المملوكي هو العصر الذي بدأت فيه مصر بالانفراد بكسوة الكعبة بلا منازع منذ أن زالت الخلافة العباسية إلا أن أول من كسا الكعبة بعد زوال الخلافة العباسية، كان الملك اليمني المظفر يوسف بن رسول عام659هـ/1260م، حيث قام بأداء فريضة الحج، وأحسن إلى الحجاج ووزع الأمـوال وغسل الكعبة وقام بكسوتها كسوة من الحرير الأسود بكتابة بيضاء لآيـات من القرآن إلا أن الظاهر بيبرس بعدما تسلطن عام 658هـ/1269م واستقر بالقلعة بدأ بإبطال المظالم والمكوس والتجهيز للحج بعد انقطاعه اثنى عشر سنة كاملة بسبب فتنة التتار، فقام عام667هـ/1268م بإخراج قافلة الحج المصري عن طريق البر بدلاً من طريق عيذاب على النيل كما خرج بنفسه للحج بعدما أدار المحمل المصري بكسوة الكعبة، فكان بذلك أول من كسا الكعبة من سلاطين مصر بعد زوال الخلافة العباسية ببغداد وقيامها بصورة رمزية بمصر، كما كان أول من استن احتفالات خروج المحمل إلا أن ذلك لم يمنع الملك المظفر اليمني من إرسال كسوة الكعبة، ولكن الكعبة لم تُلبس الكسوة اليمنية إلا بعد ذهاب الحجاج المصريين تجنبًا لغضبهم ومراعاة لصاحب مصر، التي تمكنت من كسر شوكة التتار .
واستمر التعاقب على كسوة الكعبة تارة من سلاطين مصر وتارة من ملوك اليمن حتى عهد المنصور قلاوون (678هـ-689هـ/1279م-1290م)، حيث انفردت مصر تمامًا بشرف كسوة الكعبة المشرفة، حين حلف أمير مكة عام681هـ/1282م للسلطان المنصور قلاوون "يمين الولاء والطاعة له ولولده، والتزامه بتعليق كسوة الكعبة المصرية دون غيرها في كل موسم".إلا أن الملك المجاهد اليمني أراد في عهد السلطان الملك الناصر حسن بن قلاوون وتحديدًا عام751هـ/1350م، أن ينزع كسوة الكعبة المصرية، وأن يكسوها كسوة أخرى باسمه. فلما علم أمير مكة عجلان بذلك، لبس آلة الحرب، وعرَّف أمراء مصر ما عزم عليه صاحب اليمن، فقبضوا عليه وحينما عاد أمير الحج المصري إلى القاهرة لمقابلة السلطان الناصر حسن بالقلعة، كان معه الملك المجاهد في الأسر.
وقد وصف لنا ابن بطوطة بإسهاب تلك الكسوة المصرية للكعبة، والتي ترجع لعهد الناصر محمد بن قلاوون، فقال: "....وستور الكعبة من الحرير الأسود مكتوب فيها بالأبيض. وهي تتلألأ عليها نورًا وإشراقًا، وتكسو جميعها من الأعلى إلى الأسفل". ثم يصفها بمزيد من التفصيل قائلاً: ".... وفي يوم النحر بُعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم، فوضعت على سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد عيد النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة. وهي كسوة سوداء حالكة مـن الحرير مبطنة بالكتان، وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض "جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد، ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم". وفي سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مشرق من سوادها، ولما كسيت شمرت أذيالها صونًا لها من أيدى الناس".
وحينما تولى الصالح بن الناصر محمد بن قلاوون (743هـ-746هـ/1342م-1345م) السلطة قام بشراء ضيعة كاملة بالشرقية تسمى بيسوس، وهي الآن عبارة عن ثلاث قرى أبيسوسوسندبيس وأبو الغيط بمحافظة القليوبية) ووقفها على كسوة الكعبة المشرفة في كل سنة وعلى كسوة الحجرة النبوية الشريفة والمنبر الشريف في كل خمس سنين. ونتيجة لذلك أُنشئت إدارتان يترأسهما موظفان هما ناظرالوقفوهو يُسمى أيضًا بالناظر في الحبس ويقوم بالإشراف على الأوقاف الموقوفة لكسوة الكعبة ورعايتها وإصلاحها وناظر الكسوة وهي من الوظائف الدينية التي كانت غالبًا ما يتولاها أحد القضاة، ويقوم بإدارة دار الكسوة التي أُنشئت لصناعة كسوة الكعبة وتوابعها والصرف عليها من الأموال المتحصلة من تلك الأوقاف الخاصة بها وبذلك يُعتبر الصالح أول من خصص أوقافًا للكسوة الشريفة، واستمر يُصرف من تلك الأوقاف على الكسوة طوال العصر المملوكي رغم إصابتها بالضعف في بعض السنين .
واستمرت مصر في إرسال كسوة الكعبة- والتي كانت من الديباج الأسود – طوال عصر دولة المماليك البرجية، فقد أرسل السلطان برقوق (784هـ-801هـ/1382م-1398م) أول سلاطين المماليك البرجية "كسوة مسبلة من أعلى الكعبة إلى أسفلها مرقومًا بأعاليها طراز رُقّم بالبياض من أصل النسيج مكتوب فيه{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا}، وعلى البرقع من نسبة ذلك مرقوم فيه بالبياض".
ثم تغير الطراز من اللون الأبيض إلى اللون الأصفر في عهد الناصر فرج بن برقوق (801هـ-815هـ/1398م-1412م)، "فصار الرقم في السواد بحرير أصفر مقصب بالذهب ولا يخفى أنه أنفس من الأول، والثاني أبهج منه لشدة مضادة ما بين السواد والبياض، ثم جعل بعض جوانب الكسوة ديباجًا أسودًاعلى العادة، وبعضها كمخا أسود بجامات مرقوم فيها بالبياض{ لا إله إلا الله محمد رسول الله} ثم جعل بعد ذلك برقع البيت من حرير أسود منشورًا عليه المخيش الفضة الملبسة بالذهب، فزاد نفاسته وعلا قيمته".
ولما تولى الملك المؤيد شيخ المحمودي السلطنة (815هـ-824هـ/1412م-1421م) وجد أن الأوقاف التي أوقفها الصالح إسماعيل منذ عام743هـ/1342م قد قل ريعها بسبب الإهمال، فلم تكف لنفقات صناعة الكسوة الشريفة، فقام في عام819هـ/1416م بكسوتها من ماله الخاص .
وفي عهد الأشرف برسباي (825هـ-841هـ/1421م-1437م) حاول ملك المغول شاه رخ بن تيمورلنك كسوة الكعبة، فأرسل عام833هـ/1249م رسول من قبله "ومعه كتاب شاه رخ بالسلام على السلطان، وأرسل يطلب شرح البخاري، الذي صنفه العلامة ابن حجر شهاب الدين، ويطلب تاريخ تقي الدين المقريزي، وأرسل يسأل السلطان بأن يجهز كسوة الكعبة المشرفة، وأن يُجرى ماء العين بمكة المشرفة، فأرسل له السلطان شرح البخاري وتاريخ المقريزي، ولم يوافق على كسوة الكعبة وعمارة العين وقال: "إن الكعبة لها أوقافًا برسم عمل كسوتها، فلم يحتاج الأمر لأحد من الملوك أن يكسوها، وأما العين، فإن بها آبار وأعين، فلم يحتاج الأمر إلى بناء عين أخرى". وكاد الأمر أن يصل لقيام حرب بين الطرفين بسبب رفض برسباي قيام شاه رخ بكسوة الكعبة، إلا أن وفاة برسباي حالت دون تطور الأمر لهذا الحد الخطير.
وحينما تولى الظاهر جقمق السلطنة (842هـ-857هـ/1438م-1453م) عاود شاه رخ محاولاته بالسماح له بكسوة الكعبة، وهو الأمر الذي وافق عليه جقمق حيث اعتبرها "قربة لله لا يحق له منعها"، وكان لتلك الموافقة أسوأ الأثر في نفوس العامة الذين ثاروا ثورة شديدة وقاموا بمهاجمة رسل شاه رخ ونهبهم، فلما بلغ السلطان الخبر ثار ثورة شديدة وأمسك جماعة من العامة وضربهم بالمقارع، وطيب خاطر رسل شاه رخ إلا أن كسوة شاه رخ تلك لم تكس بها ظاهر الكعبة وإنما كُسى بها باطنها، وقد بقيت هذه الكسوة بالكعبة مدة ثمان سنوات كاملة إلى أن أمر الظاهر جقمق بنزعها واستبدالها بأخرى تحمل اسمه .
واستمر سلاطين المماليك إلى آخر عهد دولتهم في إرسال كسوة الكعبة المشرفة، على الرغم مما كانت تعانيه دولتهم من ضعف واضطرابات شديدة، حتى أن السلطان قنصوة الغوري قد بذل أقصى جهوده لإرسال كسوة الكعبة، بالرغم من استعداده لحرب العثمانيين، تلك الحرب التي تسببت في عدم خروج المحمل وقافلة الحج المصريةعام922هـ/1516م إلا أنه بالرغم من ذلك فقد تمكن الغوري من إرسال كسوة الكعبة سرًا عن طريق البحر مع خادمه المدعو " الطواشي مرهف".
كسوة الكعبة في العصر العثماني
وتقول " القباني " تعتبر موقعة مرج دابق عام922هـ/1516م حدًا فاصلاً بين عهدين، ونقطة تحول هامة في تاريخ الشرق الاسلامي بصفة عامة ومصر بصفة خاصة؛ حيث تحولت مصر المملوكية إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية، ودخل "العـالم الاسلامي كله تحت الهلال العثماني" ومن ضمن هذا العالم الاسلامي بطبيعة الحال منطقة الحجاز، التي كانت تابعة لمصر وحتى في ذلك الوقت لم تتخل مصر عن كسوة الكعبة>
وقد حرص السلطان العثماني سليم شاه، بعدما استتب له الأمر بمصر، على إعداد كسوة الكعبة حسب ماجرت به العادة دون أي تعديل. فقد أراد – منذ اللحظة التي سلم فيها أشراف مكة مفاتيح الكعبة للدولة العثمانية– أن يحافظ على كل ما يتعلق بالحرمين الشريفين من عادات راسخة دون أدنى تغيير من جانبه، ويذكر لنا ابن إياس من حوادث شهر شعبان عام923هـ/1517م ما نصه "وفي يوم الاثنين حادي عشرينه عرض السلطان سليم شاه كسوة الكعبة الشريفة وكسوة لضريح النبي صلى الله عليه وسلم وكسوة لضريح سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وصنع للمحمل الشريف كسوة، وقد تناهى في زركشة كسوة الكعبة بخلاف العادة وتناهى في زركش البرقع إلى الغاية وكذلك في ثوب المحمل وما أبقى في ذلك ممكنًا".
ومنذ الفتح العثماني لمصر اختصت الدولة العثمانية بإرسال كسوة الكعبة الداخلية وكسوة الحجرة النبوية الشريفة، في حين استمرت مصر بإرسال كسوة الكعبة الخارجية من أوقاف الكعبة بها، والتي كان السلطان المملوكي الصالح إسماعيل- كما سبقت الإشارة- قد أوقفها عليها.
وحينما وصل السلطان العثماني سليمان ابن السلطان سليم الأول لعرش السلطنة عام926هـ/1520م، أوقف سبع قرى أخرى بمصر، وأضافها لتلك القرى، التي أوقفها الصالح إسماعيل لكسوة الكعبة. وهذه القرى هي: سلكه، سير ونجنجة، وقريش الحجر، ومنايل وكوم ريحان، وبجام،ومنية النصاري، وبطاليا.
وعلى الرغم من اختصاص مصر بكسوة الكعبة الخارجية، إلا أن ذلك لم يمنع الدولة العثمانية من المشاركة في إعداد الكسوة بالأستانة في بعض السنوات، ففي عام1216هـ/1801م على عهد السلطان سليم الثالث، يذكر الجبرتى أنه "في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الثانية، ورد الخبر بوصول كسوة الكعبة من حضرة السلطان، فلما كان يوم الأربعاء، حضر واحد أفندى وآخرون وصحبتهم الكسوة، فنادوا بمرورها في صبحها يوم الخميس فلما أصبح الخميس المذكور ركب الأعيان والمشايخ والأشاير وعثمان كتخدا المنوه بذكره لإمارة الحج وجمع من الجاويشية والعساكر والقاضى ونقيب الأشراف وأعيان الفقهاء وذهبوا إلى بولاق، وأحضروها وهم أمامها، وفردوا قطع الحزام المصنوع من المخيش، ثلاث قطع والخمسة مطوية، وكذلك البرقع ومقام الخليل، كل ذلك مصنوع من المخيش العال والكتابة غليظة مجوفة متقنة. وباقى الكسوة في سحاحير على الجمال، وعليها أغطية جوخ أخضر ففرح الناس بذلك، وكان يومًامشهودًا".
وفي عهد السلطان العثماني عبد العزيز خان أُرسلت كسوة الكعبة الشريفة وتوابعها من استامبول عام1287هـ/1870م وكُتب على ستارة باب الكعبة اسمى السلطان العثماني والخديو إسماعيل باشا، ولاتزال هذه الستارة محفوظة في متحف توب كابى سراي حتى الآن، وقد كان قبل ذلك اسم السلطان العثماني فقط هو الذي يُكتب على حزام الكعبة دون غيره، وذلك حتى عام1333هـ/1914م عندما حاول السلطان حسين كامل- سلطان مصر آنذاك- إضافة اسمه لأسم السلطان العثماني محمد رشاد خان، ولكن ذلك الأمر لم يوافق عليه حسين بن على ممثل الحكومة المحلية للحجاز ووالي الحجاز من قبل الدولة العثمانية، فقاما بنزع قطعة الإهداء بكاملها، ووضع قطعة قديمة عليها اسم السلطان العثماني فقط .
كسوة الكعبة في عهد الحملة الفرنسية
وتُشير الكاتبة والباحثة فى التاريخ والحضارة الإسلامية حاول الفرنسيون استغلال كسوة الكعبة وخروج المحمل كستارة إخفاء أطماعهم الاستعمارية في مصر، ومحاولة التقرب للمصريين واستمالتهم، عن طريق الظهور بمظهر المحترمين للإسلام والمقدسين لشعائره، فيخبرنا الجبرتي أنه "في الخامس من رمضان عام1215هـ/1800م- وتحديدًا في عهد جاك مينو– قد " وقع السؤال والفحص عن كسوة الكعبة التي كانت صنعت على يد مصطفى أغا كتخدا الباشا، وكملت بمباشرة حضرة صاحبنا العمدة الفاضل، والأديب الناظم النائر، السيد إسماعيل الشهير بالخشاب، ووضعت في مكانها المعتاد بالمسجد الحسيني، وأهمل أمرها إلى حد تاريخه، وربما تلف بعضها من رطوبة المكان وخرير السقف من المطر فقال الوكيل أن ساري عسكر قصده التوجه بصحبتكم يوم الخميس قبل الظهر بنصف ساعة إلى المسجد الحسيني، ويكشف عنها، فإن وجد بها خللاً أصلحه، ثم يعيدها كما كانت، وبعد ذلك يشرع في إرسالها إلى مكانها بمكة، وتكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية. فقالوا له: شأنكم وماتريدون، وقُرئ بالمجلس فرمان بمضمون ذلك" إلا أن تلك الكسوة لم يتم إرسالها للكعبة .
كسوة الكعبة في عصر الأسرة العلوية
وتختتم " القباني " كان الفرمان العثماني الصادر بتولية محمد على الحكم عام1220هـ/1805م ينص على أنه "على خزينة مصر القيام بالنفقات السنوية التي تقوم بها عادة للحرمين الشريفين". وبالفعل اهتم محمد على بصورة كبيرة بتصنيع كسوة الكعبة، فأنشأ لها دارًا مختصة لصناعتها، وأطلق عليها اسم مصلحة الكسوة الشريفة وهي دار الكسوة التي لاتزال تقبع بمنتهى الإهمال في شارع الخرنفش بحي الجمالية بالقاهرة.
ويذكر الجبرتي من حوادث شهر ذي القعدة عام1220هـ/1806م أنه "في يوم الاثنين رابع عشره، أخرجوا المحمل والكسوة، وعين للسفر بهما من القلزم (مصطفى جاويش العنتيبلى)، ومعه صراف الصرة، وفي يوم الجمعة ثامن عشره ارتحلت القافلة وصحبتها الكسوة والمحمل في أواخر النهارمن ناحية قايتباي بالصحراء، وذهبوا إلى السويس ليسافروا من القلزم".
إلا أنه على الرغم من اهتمام محمد على بكسوة الكعبة، قام بإلغاء الأوقاف التي كان يصرف من ريعها على نفقات الكسوة، وضمها إلى الخزانة المصرية، التي أصبحت تتحمل تكاليف صناعة الكسوة، واستمرت مصر في إرسال كسوة الكعبة إلا أن الظروف السياسية المواكبة لتلك الفترة والمتمثلة في الحركة السلفية المعروفة باسم الحركة الوهابية، قد تسببت في انقطاع مصر عن إرسال كسوة الكعبة، خاصة بعدما هدد الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، المعروف بالوهابي، بكسر المحمل وحرقه، بسبب تلك العوائد التي ارتبطت به من طبول وزمور، والتي لاتمت للدين بصلة، وفي تلك الفترة كسى سعود الكعبة حريرًاأسودًا من غير كتابة، ثم بعد ذلك كساها القز الأحمر .
ولم يستمر حكم الوهابيين بقيادة أميرهم سعود طويلاً، إذ أرسل محمد على ابنه إبراهيم قائدًا على رأس حملة كبيرة تنفيذًا لأوامر السلطان العثماني. وانتهى حكم السعوديين عام1234هـ/1818م، حيث توجت تلك الحملة "بنصرة حضرة إبراهيم باشا على الوهابية فعند ذلك نودى بزينة المدينة" ومن ثم استعادت مصر مرة أخرى شرف إرسال كسوة الكعبة كما كان الوضع من قبل وقد شاهد الرحالة الإنجليزى إدوارد وليم لين موكب الكسوة، وذكر أنه "عقب العيد السابق ذكره (عيد الفطر) بيومين أو ثلاثة تقريبًا، تحمل الكسوة المرسلة سنويًّا مع قافلة الحجاج الكبرى، في موكب يسير من القلعة حيث تصنع على نفقة السلطان، إلى المسجد الحسين، لتخاط أقسامها معًا، وتبطن استعدادًا للحج القريب. والكسوة من ديباج أسود غليظ تغطيه نقوش لآيات قرآنية، تُنسج بالحريرمن اللون نفسه، ويعبر كل جانب شريط عريض مزين بنقوش مشابهة تُشغل بالذهب، وإني أكتب الآن عن موكب الكسوة، بعد عودتي من مشاهدته في السادس من شهر شوال عام1249هـ، الموافق 15 فبراير1834ميلادية" .
ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف مصر عن إرسال كسوة الكعبة إلا في مرات قليلة جدًا بسبب الظروف السياسية التي أحاطت بالمنطقة العربية آنذاك إلى أن توقف تماما إرسال مصر لكسوة الكعبة في عام1961م في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، هذا الأمر لم يحرم مصر فقط من شرف إسدال كسوة مصرية على أقدس رمز إسلامي، وإنما أدى أيضًا إلى توقف ظاهرة من أروع الظواهر الإنسانية الحضارية، والتي امتدت جذورها إلى عهد الدولة المملوكية ألا وهي ظاهرة الاحتفال بالمحمل وبسفر الكسوة من مصر.