صون الدستور والإرادة الشعبية: قراءة قانونية وفلسفية في قرار إعادة انتخابات مجلس النواب

بقلم: المستشار هيثم القط – قاضٍ ورئيس محكمة سابق وعضو اتحاد المحامين العرب

في مسيرة بناء الدول، لايُقاس النجاح بضخامة الإنجازات المادية فحسب، بل بجودة الأطر التي تضبط تلك المسيرة. 

إن الأحداث الأخيرة التي واكبت العملية الانتخابية لمجلس النواب المصري، وما تلاها من قرارات، لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل كانت لحظات فارقة ترسخ مفهوم الدولة التي تُعلي من قيمة الدستور والقانون. فالمعادلة بسيطة في جوهرها وعميقة في تأثيرها: مصر الحديثة تختار بوعي أن تُغَلِّب سلامة الإجراء على سلامة النتيجة، لتؤكد أن الشرعية الحقيقية تنبع من النزاهة المؤسسية أولاً وأخيراً، ولتضع حق المواطن في اختيار ممثليه فوق أي اعتبار آخر.

إن الدور الذي اضطلع به فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذا السياق لم يكن دوراً سياسياً اعتيادياً، بل كان دوراً دستورياً بامتياز، تتكامل فيه الشرعية القانونية مع الإرادة الشعبية، ويتجلى فيه احترام الدولة لجوهر الفلسفة الديمقراطية، لا كمجرد آليات إجرائية، وإنما كقيمة تأسيسية تُلزم المؤسسات وتضبط سلوك السلطة.

إن قرار إعادة الانتخابات في 19 دائرة، لم يكن إجراءً سياسياً، بل حجة قانونية دامغة تفيد بأن الدولة المصرية لا تقبل الالتفاف على القواعد، ولا تسمح بترسيخ نتائج يشوبها أدنى لبس.. فالشرعية لا تُستمدّ من صندوق الانتخابات إلا إذا كان الطريق إليه شفافاً، منضبطاً، وسليماً، وحماية إرادة الناخب ليست منحة، بل حق دستوري مكفول يعلو على المصالح السياسية ويحتكم فقط إلى نص الدستور وروحه، والمصلحة العليا للوطن تقتضي سلامة الإجراءات قبل سلامة النتائج.

وكذلك، فقد أثبتت الهيئة الوطنية للانتخابات أنها نموذج لمؤسسة مستقلة تعمل تحت إشراف قضائي كامل، ملتزمة بنصوص القانون ومتجردة من أية تأثيرات سياسية، وعكس قرارها في إعادة الانتخابات، احتراماً صارماً لمبادئ الاستقلالية والحياد وسيادة القانون وحق المواطن في الاختيار الحر، وهو ما ينسجم مع مقتضيات المواد الدستورية المنظمة لعملها، وخاصة ما يتعلق منها بضمان حيادية الإشراف الكامل على مجريات العملية الانتخابية.

إن مصر تسير بثقة نحو تكريس نظام سياسي يقوم على احترام الدستور، وتحيا مؤسساتها بروح جديدة تجعل من النزاهة مبدأً، ومن العدالة التزاماً، ومن المواطن شريكاً أصيلاً في صناعة المستقبل.