رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
ياسر هاشم
ads
اخر الأخبار
أحمد المرشد

أحمد المرشد

أم كلثوم ... رحلة حب بين الأجيال

الجمعة 08/سبتمبر/2017 - 09:33 م
طباعة
عندما كتبت الجزء الأول عن سيدة الغناء العربي لم أكن أدري كم هذه الرسائل التي تلقيتها رغم أنني كتبت كثيرا عنها، فاأنا من عشاق صوتها وفنها، هذا الفن الذي يشمل الإلقاء والكلمة واللحن، فكل عنصر كفيل بأن يصنع فنانا في حد ذاته، مما يجعل من أم كلثوم أكثر من مطربة أحبها العرب، فهي الإنسانة المحبة لوطنها، المثقفة، المعطاءة، التي لم تبخل بثروتها لمصر بعد نكسة 1967، فكانت مثالا للسيدة الوطنية التي لم تنجبها مصر حتي الآن.

تحدثت في المرة الماضية عن روائع وسيمفونيات أم كلثوم وكيف تعلمنا منها دروسا في الحب، من كثرة أغانيها عن الحب العذري، فكنا نكتب كلماتها ونحفظها عن ظهر قلب، وياليتنا حفظنا دروسنا كما حفظنا أغاني هذه السيدة العملاقة، سيدة تركت لنا معينا لن ينضف من العاطفة والحنان والشجن والحزن والحب.

ومن الحديث عن جماليات صوت أم كلثوم، وكيف أبدعت مع المؤلفين والملحنين الذين تعاونت معهم، الي حديث الأخرين عنها، فهي كانت تبهر كل ما يلتقي بها، علي كل المستويات، ملوكا، رؤساء، عمالقة موسيقي عالميين.

ويكفي أم كلثوم أنها كانت مادة ثرية لعشرات الكتب المصرية والعربية والأجنبية، ومن بين هذه الكتب ما نكتشف منه كم الحب الذي ربطها بجمهورها حتي الذي لم يفهم العربية، ولكنه جمهور ذواق للفن، يستطيع فهم وإدراك ما يقال أمامه من نبرة الصوت وقوتها وخفوتها، مثلما يتناوب الليل والنهار، الشمس والقمر، فقد امتلكت أم كلثوم مزايا تنويع الصوت، حتي تصل لأقوي مرحلة منه في مقطع معين، مما كان يلهب جمهورها ويجعلهم ينتفضون من مقاعدهم، وكان بقدرتها ترديد المقطع الواحد بأكثر من طريقة وإلقاء ونغمة صوتية، كل نغمة فيها أروع من التي سبقتها.

نعود لكتاب مهم كتب عن سيدة الغناء العربي وقد وضعها في مصاف "معجزة الشرق، بعنوان "أم كلثوم - كوكب الشرق" مع مقدمتين، الأولى كتبها الرئيس المصري الأسبق حسنى مبارك، في واقعة نادرة منه، ولم لا؟ فهي عن أم كلثوم وليس شخصا أخر. استلهم مبارك مقدمته من الواقع الذي عايشه مع أم كلثوم فكتب يقول:"  لن يخفت صوت أم كلثوم أبدا"، ليربط بذلك أرقام مبيعات تسجيلاتها وعدد ساعات تقديم أغانيها فى الإذاعة المسموعة والمرئية لم تتوقف عند حد، بل ظلت تتصاعد وتتفوق على غيرها. ولم يضن مبارك علي أم كلثوم، إذ وصفها بـ"الفنانة العظيمة التي تجاوزت دورها كمطربة لتكون سفيرة للفن ولمصر، وهي الإنسانة التي مازالت هامتها المهيبة ترتفع فى العالم العربى كله، بل فى عالم الثقافة، فذكراها باقية فى كل مكان".

أما المقدمة الثانية فقد كتبها الفنان الراحل عمر الشريف، لتخرج منه الكلمات مبدعة في وصف قيمة أم كلثوم العظيمة :" تعود أم كلثوم مع طلعة كل شمس الى الحياة من جديد فى قلوب مائة وعشرين مليون إنسان"، ثم يستكمل وصفه الرقيق :"وبدون صوتها تبهت الأيام فى الشرق وتشحب ألوانها.. إن مكانها مازال شاغرا، وهامتها لم يطالها أحد حتى يومنا هذا".

تجسد مؤلفة الكتاب إيزابيل بوديس عن "معجزة الشرق"،  كيف استقبلها جمهورها وهي تغني على مسرح الأولمبيا أكبر مسارح عاصمة النور باريس، فقال لها مدير المسرح وهو يستقبلها فى المطار مع جماهير حاشدة من العرب والفرنسيين: "فرنسا تنتظرك بفارغ الصبر، والإذاعات جميعها ضبطت موجاتها لإذاعة الحفل، لقد سلبت عقول المستمعين، وهم يطلبون أغنية الأطلال، والطائرات تصل إلى مطار باريس حاملة كبار القوم من الدول العربية.. غناؤك هنا ياسيدتى حدث تاريخى".  ورغم أن أم كلثوم لم تدخل المدارس وقتها، إلا أن رسالتها للرئيس الفرنسي شارل ديجول تبين لنا مدي ثقافتها القديرة، فكتبت له باريس بلغة فرنسية راقية تعلمتها  من شاعرها المفضل أحمد رامي، :" سيادة الرئيس ..أحيي سعيكم الدءوب لنشر العدالة والسلام".

وكان يوم حفلتها علي مسرح أولمبيا يوما مشهودا لم ولن ينساه العرب والفرنسيون، فقد رجت المسرح وهي تغني قصيدة الأطلال من نظم الشاعر إبراهيم ناجي وتلحين رياض السنباطي، خاصة وهي تكرر  مقطع "أعطنى حريتى أطلق يديا" حتي التهبت الأكف من التصفيق، وتتراكم باقات الأزهار علي المسراح، في لحظة تاريخية  لم تكن لتمر سوي بين أم كلثوم وجمهورها.

المفاجأة أنه ليس العرب وحدهم الذين احتفلوا بأم كلثوم في باريس واستعموا لرائعتها "الأطلال"، ولكن هل تدرون أن الرئيس الفرنسي شارل ديجول استمع هو الأخر لمعجزة الشرق من خلال الحفلات المذاعة ، ولم تترك أم كلثوم باريس  إلا وكانت مستلمة برقية إعجاب من الرئيس الفرنسي يصف صوتها بقوله :"أحسست فى صوتك ارتعاشة قلبك وقلوب كل الفرنسيين".


وقد وصفت مجلة "لايف" الأمريكية المعنية بشؤون الفنانين والفن والنجوم، منطقة الشرق الأوسط ليلة الخميس الأول من كل شهر حينما اعتادت أن تغني أم كلثوم لجمهورها في هذا الموعد المحدد، حيث تخلوالشوارع فى القاهرة  المركز وكل ما حولها من عواصم عربية، من الدار البيضاء مرورا بتونس والجزائر وليبيا، مرورا ببيروت ودمشق والخرطوم والرياض والمنامة ومسقط وأبو ظبي ودمشق وبغداد والخرطوم.  لماذا تخلو الشوارع العربية؟.. لأن كل العرب عادوا الي منازلهم مبكرا لينصتوا إلى إذاعة مصر يستمعون إلى أم كلثوم.

وثمة جملة رائعة ذكرتها مجلة "لايف"  عندما ذكرت في وصف أم كلثوم :" هناك شيئين ثابتين لا يتزحزحان فى الشرق الأوسط (أم كلثوم والأهرامات)".

وعندما  تحدث موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن رأيه في  صوت أم كلثوم  ووصفه بأنه عبارة عن مجموعة أصوات  نادرة في الكون، لم يبالغ في  كلامه، لأن الموسيقي الأمريكي بوب ديلان الفائز بجائزة نوبل للآداب كشف أمرا مهما، فهو من أشد المعجبين بكوكب الشرق أم كلثوم، ولا يسئل عن رأيه في الأغنية العربية إلا وتكون إجابته واحدة وهي أم كلثوم. تعرف بوب ديلان علي صوت سيدة الغناء العربي أثناء زيارته للقدس 1978، عندما استمع وهو يسير في البلدة القديمة لغنائها وحينما سأل :" من هذه التي تغني بهذا الصوت الجميل ؟". جاوبوه مرافقوه بأنها كوكب الشرق أم كلثوم، ورأي فيها  أفضل من يغني في الشرق الأوسط، وتعرف علي قصتها منذ أن كانت تنشد الابتهالات الدينية مع والدها في بلدتها بمدينة المنصورة، فهي "فنانة عظيمة.. حقاً عظيمة".

المثير أن بوب ديلان سمع عن أم كلثوم أول مرة عام 1969 عندما التقي المطربة اليونانية ذائعة الصيت نانا مساكوري  أثناء رحلتها لنيويورك لتسجيل  ألبوم " أغنيات بنت من اليونان" بعد حفلة لها في المدينة الأمريكية وسألتها: "من هو مطربك المفضل؟" لم تنتظر حتي انتهاء سؤاله فردت على الفور: "أم كلثوم". وهنا كانت اول مرة يسمع بوب ديلان عن أم كلثوم، ومن من؟  من أشهر مطربة في العالم آنذاك،  وبحسب "ويكيبيديا" أكثر مطربة مبيعا لأسطواناتها في التاريخ بـ4.4 مليار نسخة علي 5 عقود. ولم تنقطع علاقة بوب ديلان بأم كلثوم منذاك الوقت، ونشر مؤخرا تسجيلا صوتيا وصف فيه حبه الكبير لسيدة الغناء العربي والأثر العميق الذي تركته الراحلة في نفوس الجماهير التي شيعتها وطافت بها شوارع القاهرة لمدة 3 ساعات، ورغم مضي سنوات طويلة على رحيلها إلا أنها مازالت الأكثر حضورا وتميزا، على حد وصفه.

حكايات أم كلثوم كثيرة وتملأ مجلدات ومنها لقائها الأول مع الشاعر السعودي الكبير الاميرعبد الله الفيصل، فقد غنت له قصيدة "ثورة الشك" بحديقة الأزبكية بالقاهرة في الرابع من ديسمبر 1958، وتعد من أروع ما غنته من قصائد درامية متكاملة العناصر الفنية حيث  صورت الكلمات الجحيم والنعيم في الشك، وتقول فيها :"

أكاد أشك في نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت مني

يقول الناس إنك خنت عهدي

ولم تحفظ هوايا ولم تصني

وتعد "ثورة الشك"  نقطة تحول مهمة في مسيرة أم كلثوم مع القصائد، وكانت المرة الأولى التي تغني فيها لشاعر عربي  غني له بعدها أشهر المطربين العرب. واعترفت أم كلثوم باعتزازها الكبير بعبد الله الفيصل، خاصة وأنهما اتفقا علي تغيير عنوان  القصيدة "من وحي الحرمان" الي "ثورة الشك" فيما تم الإعداد لها أكثر من عامين، لتغني له في وقت لاحق – عام 1971 أغنية "من أجل عينيك عشقت الهوي":

من أجل عينيك عشقت الهوى \بعد زمانً كنت فيه الخلى \وأصبحت عينى بعد الكرى \تقول : للتسهيد لاترحل \يافاتناً لولاهُ ماهزنى وجدُ\ولاطعم الهوى طاب لى \هذا فؤاى فامتلك آمرهُ\أظلمهُ أن أحببت أو فاعدل.

من بريق الوجد فى عينيك اشعلت حنينى\وعلى دربك أنًىَ رحُت أرسلت عيونى \الرؤى حولى غامت بين شكي ويقينِي\والمنى ترقص فى قلبى على لحن شجونىِ\أستشف الوجد فى صوتك آهات دفينة \يتوارى بين أنفاسك كى لا أستبينَ\لستُ أدرى أهو الحبُ الذى خفت شجونه\أم تخوفت من اللومِ فآثرت السكينةُ

لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة ترضي بما يقدم لها من كلمات، بالإضافة الي مستشاريها وهم كثر، فكانت آذانها خير مستشار لها، وقلبها دليلها في كلماتها، 

وفي رائعتها  "رباعيات الخيام" التي ترجمها عن الفارسية أحمد رامي، بلغت أم كلثوم قمة الإمتاع، خاصة في ترديدها بعض المقاطع التي انتفض الجمهور وهو يسمعها، حتي أن بدايتها لم تقل روعة عن نهايتها، وكانت مثل "ثورة الشك" عبارة عن قصة شعرية تحمل دراما حب وحنان، وننقل عنها بتصرف:

سمعت صوتا هاتفا فى السحر

نادى من الغيب غفاة البشر

هبوا املأوا كأس المنى قبل أن

تملأ كأس العمر كف القدر

لا تشغل البال بماضى الزمان

ولا بآت العيش قبل الأوان

وأغنم من الحاضر لذاته

فليس فى طبع الليالى الأمان

القلب قد أضناه عشق الجمال

والصدر قد ضاق بما لا يقال

يارب هل يرضيك هذا الظمأ

والماء ينساب أمامى زلال

أولى بهذا القلب أن يخفق

وفى ضرام الحب أن يحرق

فما أطال النوم عمرا ولا

قصر فى الأعمار طول السهر

اتسم أداء أم كلثوم بالتنوع والتحول، فكانت تغني الشعر والقصائد، ومن الكلمات الصعبة لـ"رباعيات الخيام" تنتقل الي السهل الممتنع في "ألف ليلة وليلة" لمرسي جميل عزيز، هذا الشاعر الذي نجحت كل أغانيه، وكان من أغزر الشعراء عطاءا لجميع مطربي عصره، واكشتفته أم كلثوم لتبدع معه في "ألف ليلة وليلة"، ومن السهل المقارنة بين صعوبة "ثورة الشك" و"رباعيات الخيام" وبين اللغة السهلة في "ألف ليلة وليلة" التي تركز علي الحب في ليلة واحدة، ليلة من أحب لياليها، حتي أنها تخشي شروق الشمس لكيلا تذهب العواطف الجياشة:

يا حبيبي .. الليل وسماه ..

ونجومه وقمره .. قمره وسهره

وإنت وأنا.. يا حبيبي أنا .. يا حياتي أنا..

كلنا .. كلنا.. في الحب سوا ..

والهوى آه من الهوى

سهران الهوى يسقينا الهنا .. ويقول بالهنا .. يا حبيبي

يللى نعيش في عيون الليل

ونقول للشمس تعالى تعالى بعد سنه .. مش قبل سنه

دي ليلة حب حلوه بألف ليله وليله ..

بكل العمر .. هو العمر إيه غير ليله زي الليله.

إنها كوكب الشرق، ومعجزة الشرق، وسيدة الغناء العربي، التي حملت لنا  أطيب الكلمات وأعذبها، وكانت بين الأجيال همزة الوصل  نسيجا نادرا لا يجود به الدهر، ليبقي صوتها وفنها تراثا خالدا نتغني به جميعا. ونختم بوصف الدكتور طه حسين لصوتها: صوت نادر في امتيازه  وجماله وسلامة نطق اللغة العربية، أثبتت جمال اللغة وطواعية موسيقاها، عندما غنت القصائد، وكان لصوت أم كلثوم الفضل في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة". ومن طه حسين الي رسالتي الخاصة الي كل العشاق والمحبين، العودة الي أم كلثوم، واكتفي هنا بـ"أمل حياتي" و"أنت الحب".

احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني

إرسل لصديق

ads
ads

تصويت

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟
ads
ads
ads

تابعنا على فيسبوك

تابعنا على تويتر