فن وثقافة
وداعًا.. صديق "لغتنا الجميلة" فاروق شوشة

بوفاة الشاعر الكبير فاروق شوشة فجر اليوم الجمعة عن عمر يناهز ال80 عاما يحق للشعر أن يبكي أحد مبدعيه الكبار ويحق للغة أن تنتحب لرحيل صاحب" لغتنا الجميلة" .
وفاز الراحل هذا العام بأهم جائزة ثقافية
مصرية في الآداب وهي "جائزة النيل" وقيل ان الجائزة الكبرى قد عرفت طريقها
لمبدع حلق في سماء الإبداع المصري والعربي على مدى اكثر من نصف قرن فيما تكشف الجولة
المتمعنة في مسيرته الثرية عن رؤى هامة في قضايا الشعر واللغة والنقد ونظرات متبصرة
في سياقات التاريخ الثقافي وولع بالجمال يقابله عداء طبيعي للقبح.
وفاروق شوشة بصوته العذب الحنون هو أيضا
الإعلامي المتفرد والذي استخدم الاعلام كمنصة ابداعية لصالح "اللغة الجميلة"
وكأنه الضوء الجميل ينساب بين الناس مبشرا بالجمال ومدافعا عن كبرياء القصيدة بقدر
مايبحث دوما عن "الجمال في الانسان والطبيعة والفن والحياة".
وواقع الحال أن أي جولة متمهلة بعض الشيء
في عالم فاروق شوشة الذي سيبقى متوهجا رغم رحيله عن الحياة الدنيا كفيلة بمتع ولذائذ
متنوعة ومتعددة فضلا عن كثير من الدروس والقيم.
وأبن "قرية الشعراء" في محافظة دمياط كان من المؤمنين بأهمية الدور الثقافي المصري في المحيط الإقليمي وعلى امتداد الأمة العربية والناطقين بلغة الضاد ومن ثم ففاروق شوشة هو صاحب الدعوة المخلصة لاستعادة مجد مصر الثقافي والابداعي.
و طرح الاذاعي والشاعر الكبير فاروق شوشة قبل فترة من وفاته فكرة جديدة هي : "اكشاك الثقافة" التي ينبغي ان تقام في كل قرية ونجع لتلبي الاحتياجات الثقافية لملايين المصريين موضحا ان هذه "الأكشاك" يمكن ان تكون في صورة مكتبات متنقلة وتقدم ايضا عروضا سينمائية ومسرحية وانشطة فنية موسيقية وغنائية.
وفاروق شوشة صاحب "أحلى 20 قصيدة حب" ولد في مطلع عام 1936 بقرية الشعراء بمحافظة دمياط ودرس بمدارس هذه المحافظة الواقعة بدلتا مصر حتى نهاية المرحلة الثانوية ليلتحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة ويتخرج منها عام 1956 ونال في العام التالي دبلوم من كلية التربية بجامعة عين شمس فيما التحق بالإذاعة المصرية عام 1958 حتى اصبح رئيسا لها عام 1994.
ولئن بقى أسم الشاعر والإعلامي الكبير فاروق
شوشة مقترنا بأروع واشهر البرامج الإذاعية والتليفزيونية ذات المضمون الثقافي وفي طليعتها
"لغتنا الجميلة" و"أمسية ثقافية" فانه شغل خلال مسيرته الثرية
مناصب هامة في الأبنية والكيانات الثقافية المصرية من بينها رئيس اتحاد كتاب مصر ورئيس
جمعية المؤلفين والملحنين كما شغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة
والمعروف "بمجمع الخالدين " .
وهذا الشاعر المغرد بكل ماهو جميل والذي قام أيضا تدريس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في القاهرة دفعته غيرته على جماليات الشعر العربي للمطالبة "بطرد البغاث وكل الهوام من الساحة الشعرية" دون ان يعني ذلك اغفاله لضرورة وسنن التطور بحكم متغيرات الزمن و"المخاض الابداعي المتجدد".
وتجلى حنين فاروق شوشة وانحيازه للشعر العمودي
في كلمات تنساب بصدق :"احس ان هناك جيشانا في داخلي يطمح الى كبرياء القصيدة العمودية
واسميه كبرياء لأن القصيدة العمودية في وجداني كانت تعني الشموخ والهيبة والكبرياء
والسلطة الشعرية والاحكام".
واضاف فاروق قائلا :"الآن لااجد هذه الأشياء التي كانت تجعلني استشعر الزهو, هذا هو شعر امتي, هذا هو ابداع لغتي وليس هذه الكتابات المهمشة التي يوحي الي الكثير منها انها مترجمة وانها خلت من الوتر او خيط الأمومة الشعري الذي لايرى والذي يربط الشعر الراهن بأبيه وجده".
وفي الوقت ذاته كان فاروق شوشة يؤكد دوما على "اهمية التواصل بين المبدعين الحقيقيين" و"قراءة الآخر" ومن ثم "معرفة الآخر" مشددا على ان الشعراء الشباب الذين يمتلكون ادوات الابداع الحقيقي بما في ذلك القدرة الواثقة في كتابة القصيدة العمودية "يشكلون مصدر الخطورة على هؤلاء الذين لايملكون لغتهم".
ولأنه عاشق كبير للغة العربية فالشعر عند فاروق شوشة "فن لغوي" ولأنه صاحب عين راصدة لتفاصيل المشهد الابداعي المصري فانه اهتم للغاية بشعر العامية وذلك خلافا لما يتصوره البعض عن "فاروق شوشة صاحب لغتنا الجميلة والأمين العام لمجمع اللغة العربية" بل انه باح بأن اعجابه بشعر العامية يرجع لأيام طفولته في قرية الشعراء حيث اول شعر استمع اليه كان الشعر الذي ينشده شاعر الربابة وهو يروي السيرة الهلالية ليولد معنى الشعر في وجدان الصبي الصغير مصحوبا بالنغم ومنشدا بالعامية حتى كبر فاكتشف ان قصائد امير الشعراء احمد شوقي للملحن والمطرب الموسيقار محمد عبد الوهاب تنافس في جمالياتها بعض قصائده الفصيحة.
ولفاروق شوشة نظرات نقدية عميقة في بعض
المقولات التي كادت تتحول الى مسلمات في الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية
مثل مقولة او فكرة "الأجيال" فهو لايعتبرها فكرة صحيحة ويضرب المثل بما يسمى
بجيل الستينيات في مصر والذي يضم اسماء مثل محمد عفيفي مطر وامل دنقل ومحمد ابراهيم
ابو سنة وبدر توفيق وغيرهم.
ففاروق شوشة لايرى بين احدهم والآخر اية
مشابهة من اي نوع على الاطلاق فيما يتعلق "باللغة الشعرية وطرائق التصوير"
فيما ينفي عن تلك الأسماء التي وضعت معا ضمن ماسمي بجيل الستينيات صحة ماقاله بعض النقاد
حول وقوعهم في شراك التقربرية والخطابية والمباشرة معتبرا معطيات الواقع العربي العصيب
تتطلب "تعرية كاملة".
وفيما يتعلق بالنقد ونقاد الشعر قال فاروق شوشة : "النقاد مثل الشعراء مطحونون بلقمة العيش" و"الكتابة النقدية الحقيقية اصبحت تعرض صاحبها للعداوة ولاغلاق الأبواب والنوافذ اذا كان جادا" كما ان بعض النقاد الآن يفتقرون للقدرات اللغوية التي تمكنهم من النقد التفسيري والتطبيقي الذي يعكف على النصوص ويحلل جماليات الشعر.
واذا كانت "القراءة" باتت من
اصعب الأشياء في هذا الزمن كما رأى فاروق شوشة فان "الكتابة" امست
"اصعب الصعب" لأن هناك حساسيات قد تترتب على الكتابة وهناك من قد تسعده الكتابة
غير ان هناك ايضا من قد تغضبه تلك الكتابة الأمر الذي يدفع بعض الكتاب والنقاد للصمت
بغية الابتعاد عن المشاكل !.
ومجمع اللغة العربية بالقاهرة بدأت تركيبته
تتغير كما لاحظ فاروق شوشة اثناء شغله بجدارة منصب الأمين العام لهذا الصرح الحارس
للعربية مشيرا لدخول اعضاء اصغر سنا بالمقارنة مع مراحل سابقة ولافتا الى ان هؤلاء
الأعضاء "اكثر حيوية واهتماما بالهم العام واكثر تحمسا لقضايا اللغة في المجتمع".
ونظرة فاروق شوشة لمجمع الخالدين تنطلق بوضوح من المنظور الثقافي الرحب داعيا للدفع في اتجاه "وظيفية المجمع الاجتماعية ومسؤوليته وانشطته الثقافية واهمية انفتاحه على الأخرين والحوار معهم واقامة علاقة حميمة مع المؤسسات المعنية باللغة وخاصة في التعليم والاعلام وتطوير مجلة المجمع لتتجاوز نشر ابحاث محكمة تستخدم في الترقيات الأكاديمية الى نشر ابحاث حية عن قضايا ساخنة".
فالاذاعى القدير والشاعر الكبير فاروق شوشة والذى شغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية قد وصف دراسة اعدها الدكتور محمد داوود الأستاذ الجامعى والخبير بالمجمع عن اللغة وكرة القدم بأنها "دراسة ممتعة ورائدة وغير مسبوقة" منوها بأنها "تضع اساسا لعلم اللغة الرياضى من خلال رصد حركة اللغة فى واحد من اوسع مجالات حياتنا الاجتماعية واكثرها تأثيرا اى مجال لغة كرة القدم التى تتسم بالتشويق والاثارة والمتعة ".
انه المثقف "الباحث عن الجمال في كل
شييء"..فتحية "لروح طليقة تعانق البشر"..تحية للشاعر "صاحب الوجه
الحميم والعطر المقيم الذي تزدهي حروفه وتنجلي كأنها الشعاع او كأنها الشرر"..تحية
لمبدع مصري اصيل "سيبقى ابداعه الرحيب باسطا يديه وصوته الجميل مايزال رغم رحيله
سلما الى الجمال وزادا لكل الباحثين عن الجمال" !..وداعا للمبدع الجميل للباحث
عن الجمال في اللغة والحياة.