رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
ياسر هاشم
ads
اخر الأخبار
د. بروين حبيب

د. بروين حبيب

القاتل

السبت 06/أبريل/2019 - 09:44 ص
طباعة
مثل لعبة إليكترونية، كان حامل البندقية يطلق النار على ضحاياه بسرعة فائقة، و في خلال دقائق معدودات، كانت حصيلته قد بلغت رقما مخيفا، أمّا طريقة التصوير، و بثها مباشرة فكانت أقرب لهذه الألعاب المنتشرة في العالم أجمع، فهل يمكن إدانة مبتكريها؟ و تحميلهم مسؤولية ما حدث؟ إذ يبدو جليا أن هوس الرّجل بطريقة القتل هذه نابع من تدربه على تلك هذه الألعاب.

هذا رأي، فيما رأي آخر أدان العنف الهولودي، الذي وجّه السلاح دوما للإرهاب على أنه إسلامي، فهل يمكن إدانة هوليود و توجهاتها القديمة المتجددة للتسويق للعنف؟.

هل يمكننا أن نوجه أصابع الإتهام لجهة معينة غير القاتل الذي نفّذ الجريمة بحماسة من يتسلّى؟ و هل يمكن بهذه الطريقة أن نجد له مبررا، و كأنّه وقع ضحية إيحاءات سينمائية أو غيرها؟ بالطبع لا، فالمجرم يتحمّل مسؤوليته كاملة، حتى و إن كان خلفه من حرّضه عليها، فلكل واحد عقابه، أمّا تلك الرؤية الضبابية التي تبحث عن جهة  مؤثرة بشكل غير مباشر في مرتكب الجريمة، فتلك حالة تستدعي الكثير من التمعن، و التعقُّل، يجب أن ينتبه إليها من يرمي التهم يمينا و شمالا، فالمجرم يعاقب لأنّه اختار ارتكاب الجريمة بمحض إرادته، و هنا عصب المشكلة.

إن أي مبرر للجريمة يعني الإستخفاف بعظمتها، و يقود دوما للتخفيف عن المجرم خلال محاكمته، و إيجاد عذر لإستمرار الجريمة. و هذا ما لا أرى له داع في كل الجرائم التي حدثت و تحدث في العالم أجمع، فبشاعة الجريمة تكمن في إزهاق روح مسالمة، أمّا في خلال الحروب فلطالما ارتكبت مجازر، و لم يعاقَب مرتكبوها.

جريمة نيوزيلاندا ارتكبت في بلد آمن، في مكان يؤمه مصلون عُزَّل، بعد تخطيط دام فترة طويلة، شملت هذه الفترة، متابعة أعمال العنف التي قام بها مسلمون في مناطق كثيرة منها الإسلامية و غير الإسلامية.  و هو ما قام به متطرفون إسلاميون بتركيزهم على مدى فترة معينة على جرائم الآخر نحو أبناء طائفته.

سنة 2016  في الحادي عشر من شهر ديسمبر  استهدف انفجار الكنيسة البطرسية في حي العباسية بمصر، قتل يومها ست و عشرون شخصا و أصيب تسع و أربعون من المصلين. قبلها بسنوات تحديدا سنة 2011 أردى انفجار واحد و عشرون شخصا و أصيب ست و سبعون كانوا يصلون ليلة الميلاد في كنيسة القديسين بمنطقة سيدي بشر في الإكندرية بمصر أيضا.

مسلسل من التفجيرات استهدفت أقباط مصر، من طرف متطرفين إسلاميين، لكن المختلف بين تلك التفجيرات و مجزرة نيوزيلاندا، هو أن المجرمين لم يوثقوا لعملياتهم الإجرامية، و رغم توجّع الضمير الإنساني العالمي إلا أن ردات الفعل تباينت، و لنقل بشجاعة أن القبطي المظلوم حمل وجعه وحده، أمام تنديدات لم تكن بقوة التنديد النيوزيلاندي ضد جريمة المسجدين.

علينا اليوم أن نتحلّى بالشجاعة اللازمة، و لا نبرر لجريمة و ندين أخرى، و أعتقد أن دور النخبة اليوم هو الحفر في القلوب المريضة بالتطرف، و اقتلاع جذور الكراهية منها. غير مقبول اليوم أن نلعب دور المتفرّج المتأفف من بعيد، فيما أعمال العنف تحصد أرواح الأبرياء في أماكن العبادة، و المدارس، و الشوارع.

لقد لعبت الإيديولوجيات المتطرفة، بعقول آلاف الشباب من شتى أصقاع العالم، و جنّدتهم فقط لممارسة العنف القاتل، و تصفية أناس أبرياء، إذ في كل الجرائم التي حملت راية حماية الدين، أو تصفية طائفية أو عرقية، في الشرق الأوسط أو أفريقيا، أو العالم العربي أو الأوروبي لا عداء شخصي بين القاتل و المقتول سوى مفهوم ضبابي يعطي للجريمة مبررا لتحدث، و كلما حدثت، جاء الصمت العالمي الذي يكلله بعض من الإعلام المؤثر ليستمر، شيء لا يُصدق و لكنه حدث و لا يزال يحدث، خاصة حين أُخضِعت مشاعرنا لقانون السوق، و أصبحنا جاهزين للتعاطف حسب العرض و الطلب، مع جهة دون أخرى، وفق توجيهات إعلامية معينة، بإثارة الحدث و تعليبه وفق نقاط ضعف المتلقي، هذا من جهة، أما الجهة الأخرى فهل استغلال الدين في المجتمعات المتدينة و تقسيم البشر إلى قسمين، من هم أخوة لنا، و من هم أعداؤنا، بسهولة يمر الخطاب الذي يجند مشاعرنا مع أخوتنا في الدين، لنجد أنفسنا نبارك الجريمة ضد من يختلف معنا في المعتقد، و هذا من أخطر مبررات الجريمة في العالم أجمع.

كون هذا المبرر ينجب مفاهيم فرعية، تبلغ قمّة الوقاحة، حين تبيح تصفية أبناء الطائفة الواحدة، بسبب اختلاف بسيط بين المذاهب و الإجتهادات، و هي كلها ليست أكثر من وجهات نظر تخص أصحابها، و لا يمكنها أن تذهب أبعد من ذلك.

نعم ندين جريمة نيوزيلاندا، ندينها بوجع قطّع أوصالنا، و جرح ضاعف صدماتنا، و لا يمكننا أن ندين غير مرتكبها و المجموعة المريضة التي ينتمي إليها، المثخنة بضغائن و كراهية عمياء نحو الآخر المختلف، و لكن هل تكفي الإدانة و المحاكمة؟ هل يكفي المؤبد لهذا القاتل و شلته؟ هل يكفي الإعدام لقتلة قبله قتلوا الأبرياء في المساجد، و الكنائس، و الأماكن المقدسة التي يلتقي فيها الحجيج من كل لون و جنس؟ هنا الثغرة الكبيرة التي تركها صمت المثقفين، فترميم القلوب المليئة بشروخ الكراهية مهمة الشاعر و الأديب و المسرحي و الفنان، فماذا قدمنا قبل أن تصبح سمعتنا كمسلمين ملوثة بكل أنواع التهم؟.

قبل أن نتهم هوليود، و أميركا، و الغرب الذي نلعنه ليلا نهارا، كيف عالجنا الأمر؟ هل نحن أبرياء؟ حين هربت قوافل من الكتاب و الأدباء و النشطاء من قمع مشترك بين الأنظمة و المجتمعات العربية، فيما تكرّس الخطاب نفسه الذي يدين الغرب وحده؟ أعتقد أن الأغلبية رسّخت لتلك الكراهية نحو الآخر، حتى حين كانت قنابل بعض الأنظمة الحاكمة تهوي على رؤوس أبنائها، كانت التهمة موجهة للغرب، و كانت الأصابع تقول أنه هو السبب، هو الذي صنع الجماعات المتطرفة، هو الذي جنّدها، هو الذي غذّى تلك الأحقاد.!

أليس عجيبا أن يمارس المجرم جريمته خلال كل هذه السنوات، و اتهاماتنا المباشرة توجه نحو غيره؟ فعليا هذا نوع من التّجني نحو أنفسنا، و شحن للقلوب الضعيفة بكراهية مستمرة نحو الآخر، لقد عجزنا و هذا اعتراف شجاع مني عن كتابة أدب إنساني، يبني وعيا حقيقا لدى الأجيال القارئة، فشلنا أيضا في خلق بيئة تقودها أوركسترا تعزف معزوفة الحياة لا الموت، لهذا ليس غريبا أن لا نفهم بعض الرسائل المشفرة التي حمّلها أدباء قلة في نصوصهم، مبينين كيف لأبناء " سي السيد العربي "  - الذي يفرد سلطته على بيته، و يكمم أفواه أفراد عائلته – بإمكانهم أن يتظاهروا ضد شتى الإستعمارات الغربية، و الممارسات الإمبريالية رافعين شعارات كبيرة، و لكنهم يتخبطون أمام والد متسلّط، و يقضون حياتهم يزحفون أمامه من شدة الإنحناء. قرأنا هذه القصص عند نجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، و سهيل إدريس، و الطيب صالح، محمد شكري و هو نموذج إستثنائي، قمة في الجرأة  في وصف قسوة الأب و سلطته الجائرة.وآخرين .
لكن يحضرني ما قاله محمد درويش هنا:
" ...و والدي كعهده
يسترجع المناقبا
و يفتل الشواربا
و يصنع الأطفال
و التراب
و الكواكب َ. "
من قصيدة طويلة، حافلة بتفاصيل السلطة الأبوية، المغايرة تماما لتفصيلات الأم الحاضنة، الجميلة، المصغية، المحدثة، يقول أيضا : " يا أبي لمَ لمْ تقل لي مرة
في العمر : يا إبني ، كي أطير إليك بعد المدرسة؟
لمَ لمْ تحاول أن تربيني كما ربيت حقلك سمسما، ذرّة، و حنطة..."
يا إلهي كم جرحنا عميق، كم خطايانا نحو أنفسنا كبيرة، فهل يمكن لخطاب نهضوي جديد أن يذيب جليد هذا الماضي الذي يغلّف أفئدتنا؟ هل يمكننا أن نتوقف عن إنتاج ثقافة عرجاء تتكئ على عصا العنف، و نبدأ في انتاج ثقافة مسالمة، تنتصر للإنسان و للحياة، و نترك الموت للخالق لا للمخلوق، و إلاّ فكلنا سنكون قتلة.

إرسل لصديق

ads
ads

تصويت

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟
ads
ads
ads

تابعنا على فيسبوك

تابعنا على تويتر

ads