رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
ياسر هاشم
ads
اخر الأخبار
د. بروين حبيب

د. بروين حبيب

التّصابي و ما شابه

السبت 22/ديسمبر/2018 - 03:09 م
طباعة


يأسف بائعو الكتب لأن الكتاب دخل السوق مثله مثل أية مادة مستهلكة، و أصبح التّرويج له ضرورة من الضرورات القصوى، و إلاّ فلن يحظى بالقراءة.

فالإستنكار الذي تمسّك به الناشرون العُتَّق  لعملية التّرويج هذه، لم يعد يتمسّك به النّاشرون الجدد، خاصة من فهموا سحر المنصة الإلكترونية و الفضاء الأزرق، و شِباك التواصل الإجتماعي – إن صحّ تسميتها بالشّباك – التي تصطاد القارئ حيثما يكون.

في معارض الكتب هذه السنة، طفت على سطح مشهدنا الثقافي ظاهرة إقبال الشباب على القراءة، لكنها أشبه بدعوة لبقة و مغرية لإقتناء كتب مغايرة لأذواقنا نحن كهول الثقافة العربية.

وجبة القراءة هذه المرة لا تتخطى سقف القصص الرومانسية الخفيفة، و الكتب رخيصة الثمن، صغيرة الحجم، و التي اجتهد الناشرون الجدد على جعلها في متناول الجميع، أغلفة برّاقة، تبرز العنوان أكثر من إسم الكاتب، ذلك أن الكُتَّاب الجدد يراهنون على المحتوى أكثر من الرهان على أسمائهم التي غطتها ظلال مشاهير الأدب على مدى ربع قرن و أكثر.

أصبح إختراق عالم نجوم الأدب صعبا، كون أغلب المنابر الإعلامية و الأدبية من مهرجانات و ملتقيات حكرا لهم، ما جعل صناع الكتاب يمضون في " بيزنس "  يطلق سُفنه في الفضاء الأزرق تاركا لأشرعتها حرية السفر لعوالم مختلفة عمّا ألفناه.

بدأت تأثيرات هذا الخط التسويقي الجديد تؤثر حتى على كبار الكُتَّاب، بعضهم انزلق مباشرة في فخ الكتابة السطحية، مع مراعاة كل مقاييس التفاهة للبقاء في الواجهة. و هذا شيء مؤسف، حين تتزعزع ثقة كاتب بنفسه، فيتصابى ليلحق بالرّكب. 

ما نعيشه اليوم، يخدعنا جميعا، لأننا لا نستطيع أن نبني عليه توقعاتنا، فمنذ عدة سنوات، ظننا أن التكنولوجيا عدوة للكتاب الورقي، حتّى أن المطابع و دور النشر و الجرائد و المجلات توقعت كارثة تقضي عليها إلى الأبد، و لكن الذي حدث هو العكس تماما، فقد بقيت محرّكات المطابع تعمل، لحاجة النّاس لدليل ورقي دائما، لنشاطاتهم .

لم يعد مقبولا أن توجه دعوة زفاف إلكترونيا للمدعوين، إذ يجب أن تكون من الورق الفاخر، و قد سهر على تصميمها مبدع يتفنن في اختيار نوع الخط، و نوع الزخرفة التي تزينها، قبل أن توضع في ظرف جذاب، و توزع يدا بيد، لتكتمل واجبات الدعوة، و هذا ما يفعله كل شخص يحتفي  بمناسبة أخرى ، أمّا الكتاب فلم يستنجد بهذا النوع من الدعوات إلا في العشرين سنة الأخيرة، حين أصبح البيع بالإهداء حيلة لاسترجاع ثمن الطباعة على الأقل.

أقول حيلة لأن المدعو لحفل توقيع يقتني الكتاب لا  لقراءته بل لمجاملة المؤلف، إنّه طقس مفرغ تماما من روح الرغبة في القراءة،  أو لنقل أنه طقس إجتماعي  لا غير، يخرج منه الكاتب  بأقل الخسائر المادية و المعنوية، و خيبات الأمل التي  تلاحقه أمام الظروف الصعبة التي  ضرّت بالكتاب.

الذي حدث هذا العام، هو أن الدور التي اعتمدت طرقا متميزة لدعوة القارئ نجحت أكثر، إنّها لا تحرج أحدا من أجل إقتناء كتاب، فهي تكتفي بما قل و دلّ من العبارات الجميلة للإخبار عن محتوى الكتاب، مع صورة لغلافه، و كفى ! يذهب القارئ بعدها مدفوعا بفضوله إلى الحكاية سعيدا باقتنائها. 

و لأنّ الفئة الشبابية هي الأقوى حضورا في عالمنا العربي، فإن هذه الفورة الثقافية تبدأ من الصفر على ما يبدو، و كأنّنا ندخل عصرا جديدا، ليس فقط حسب المعطى السياسي الذي ولّد حدودا جديدة بين شعوبنا، و حساسيات فكّكت الكثير من الرّوابط القديمة، بل إن المعطى الثقافي أيضا صنع شروخه العميقة بين هذه الفئات الشابّة، حسب توجهات القراءة الرّقمية، المغايرة تماما للقراءة الكلاسيكية.

ما يقرأه الشباب اليوم متوفر عبر مواقع معينة، إنهم يعشقون ويكيبيديا مثلا، و يأخذون معلومات كثيرة منها لملأ نصوصهم الإبداعية، دون أن يشعروا أن ذلك نوع من السرقة، فكل ما هو متاح لهم، يعتبرونه ملكا للعامة، و يستخدمونه دون ذكر للمصدر، يحبذون المقولات القصيرة، و يحفظونها أحيانا، معتقدين أنها ملخصات تختصر قائليها، يميلون في اقتناء ما يريدون حسب الإعلانات، لهذا أُدرِج الكتاب في المادة الترويجية التي توجه عبر الهواتف الذكية. 

و هي الآلات العجيبة التي  تجمع الناس اليوم و توحدهم أكثر من الدين و اللغة و الحدود الجغرافية ، إذ من بين عشرة مواطنين نجد الربع أو أقل منه متمسكا بانتماءاته الكلاسيكية،  أمّا البقية فقد تحررت تماما من كل تلك القيود  القديمة، و في الغالب فإن الربع المتمسك بانتماءاته قطع مسافة عمرية لا بأس بها منفصلا عن الأجيال الجديدة، و هذا ما شكّل حاجزا كبيرا بينهم. هناك هوّة كبيرة بين أبناء التكنولوجيا، و  أبناء الزمن الهادئ، حيث أمور الحياة كلها تمشي ببطء.

يحتاج الكاتب اليوم أن يخبر النّاس ماذا يأكل، و ماذا يرتدي، و ماذا يشاهد، و من هم أصدقاؤه، و أين يقضي عطلته.

القارئ لا يأبه بنصه إن كان جيدا، محبوكا بلغة جميلة و صحيحة، بقدر ما يهمه أن يرى كاتبه أحيانا بالبيجاما، و أحيانا ببدلة أنيقة، و أحيانا يلوّح له من عواصم مختلفة عبر إنستغرام أو فايسبوك .

الكاتب مطالب ليقدّم صورة مدهشة عن نفسه، و يؤكد يوميا لقرائه أنه مختلف عنهم، و قريب منهم في الوقت نفسه، أكثر من ذلك هو يتعالى على قُرّائه بما يعرفه و لا يعرفونه، و هم بمخيلة مراهقة يندهشون و يمضون خلفه. 

أمّا الخلوة التي كان يحتاجها الكاتب في أزمان مضت، فليست ضرورية لكاتب اليوم، هو يكتب في قلب الصخب اليومي، في الشوارع، و المقاهي، و الأسواق، يحمل هاتفه الذكي و يفاجئ متابعيه بصوره المتحرّكة، بسعادته الوهمية، و بكماله و إكتماله ، و بعض الكلمات التي لا يبذل جهدا لإيجادها، و هذا كل شيء.

لا بأس أيضا من نشر بعض السخافات، كأن تصور كاتبة ظفرها المكسور، و تكتب مع الصورة كلمة " آخ" و تطلق الخبر و كأنه سبق صحفي ينتظره الجميع. التفاعل مع هذه ال" آخ "  قد يكون أسطوريا، و لن يفهم كهل في عقده الخامس أو السّادس ما المثير في تلك ال "آخ"  سوى أنّها صادرة عن كاتبة تتأوّه بسبب إصبع الإغراء المصاب بكسر طفيف في الظفر.

نتحدث هنا عن كُتاب ولدوا البارحة، و آخرون  في خريف العمر فهموا اللعبة و ساروا على خطاهم، في سابقة لم نشهدها من قبل، ففي الزمن الجميل كان المبتدئ يقلّد الكاتب الكبير ليحظى بمكانته، لكن الأمور انقلبت رأسا على عقب اليوم، إنّه التّصابي بعينه، و المراهقة المتأخرة، و الطيش الأدبي إن صح التعبير.

نعم، في الزمن الأزرق حدثت المعجزة، و أصبح الإقبال على الكتاب ظاهرة ملفتة للنظر، لكنها ظاهرة خالية من النُّضج، و حتى لا أكون متشائمة في رأيي، سأقول أنها ستنضج لاحقا، حين تكبر هذه الكائنات الزرقاء التي تقرأ بهرموناتها لا بعقولها.

و حتى لا أكون مجحفة، سأقول أن الترويج للكتاب ضروري و ممكن، و لكنّه لا يحتاج لهذا الكم من الرّكاكة لجعله مطلوبا. و طبعا بإمكان الكاتب دائما أن يتقاسم بعض خصوصياته مع قارئه، لكن دون مبالغات، و أعتقد أنه من الظلم أن نتعاطى مع القارئ على أنه مستهلك غبي، و من الغباء أن ننزلق في التفاهة لنصبح كتابا مشهورين. فالأدب كان و سيظل دائما أدب الكلمة و الأخلاق. 

بروين حبيب 
شاعرة و إعلامية من البحرين 
 

 


إرسل لصديق

ads
ads

تصويت

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟
ads
ads
ads

تابعنا على فيسبوك

تابعنا على تويتر

ads