صدى العرب : كيس الفئران والمواقف بين إيران والأمريكان (طباعة)
كيس الفئران والمواقف بين إيران والأمريكان
آخر تحديث: الأحد 20/05/2018 01:14 م
أحمد المرشد أحمد المرشد
عندما تناقشت أنا وأحد الأصدقاء حول فكرة موضوعي هذا  بالكتابة عن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، أبلغني بحكاية مصرية وقال لي ربما تفيدك في مقالك وأسمعها لآخرها وحدد مدي أهميتها لك في سردك للموضوع، ولم أكذب خبرا وتركته يقص  حكايته للنهاية حتي قررت فعلا أن أبدا بها موضوعي، ربما للهدف منها وهو ما سيدركه القارئ مباشرة، وثانيا لأنها مهدت لي فعلا في ترتيب أفكاري..أما حكاية صديقي فهي تروي أن مهندسا زراعيا كان يعمل في قرية بصعيد مصر، وركب القطار في طريقه للقاهرة، وجلس بجانبه فلاح مسن من أهالي القرية. لاحظ المهندس أن بين قدمي الفلاح كيسا كبيرا من القماش، وكان الفلاح يقلب الكيس ويخلط محتوياته كل ربع ساعة أثناء الرحلة، ثم يعيد تثبيته بين قدميه، واستمر على هذا الحال طيلة الطريق..استغرب المهندس الزراعي جدا من تصرف الفلاح، فسأله: "ما قصة هذا الكيس؟". فرد الفلاح: "عملي هو اصطياد الجرذان والفئران وأبيعها وأوردها إلى المركز القومي للبحوث بالقاهرة ليستخدموها في التجارب المعملية". ثم سأله المهندس: "ولماذا تقلب هذا الكيس  وتهزه كل فترة؟"، فقال الفلاح: "هذا الكيس به بعض الجرذان والفئران، ولو تركته من دون تقليب وهز لأكثر من ربع ساعة ستشعر الجرذان والفئران بالراحة والاستقرار، وسيتوقفون عن التوتر الغريزي، ولن يطول الوقت حتى يبدأ كل واحد منهم بقضم الكيس ومن ثم ثقبه، لذلك أهزه كل ربع ساعة كي أثير خوفهم وتوترهم، فتنشغل بالعراك مع بعضها منساقة بغرائزها وتنسى قرض الكيس ريثما أصِل إلى مركز البحوث بالقاهرة". عقدت الدهشة لسان المهندس من طريقة تفكير الفلاح ومن (نظرية كيس الفئران)، ثم سرح بأفكاره في سياسة الغرب الأمريكي والأوروبي وصهاينة العالم وفلسفتهم تجاه بلداننا العربية.. وكيف أنهم كلما بدأت شعوبنا تشعر بالاستقرار (يهزون الكيس) مطلقين الدسائس والفتن لتستمر سيطرتهم تحت شعارات عدة، منها محاربة الإرهاب، وفرض الاستقرار..وبشكل طبيعي تنساق شعوبنا خلف المتلاعبين بغرائزها، وينسى الجميع ضرورة "قضم الكيس وثقبه" الذي يتخذ أشكالا عديدة، منها "حدود سايكس- بيكو"، والتقسيمات الدينية والطائفية والعرقية، وغيرها.
اعتقد أن حكاية كيس الفئران والجرذان وهزه كل فتره تغنينا عن تحليلات كثيرة لا داعي لذكرها، وإن كان علينا الآن العودة الي قرار ترامب المشار إليه، لتحديد كافة المواقف المرتبطة به، خليجيا وشركاء إيران في الاتفاق النووي،  ثم نختم بالموقف الإيراني، وربما لن نتطرق الي الموقف الإسرائيلي لضيق المساحة وإدراكا لأنها تؤيد قرار ترامب قلبا وقالبا بل من المحرضين عليه.
تقودنا البداية الي الموقف  الخليجي ممثلا في المملكة العربية السعودية وعلي لسان وزير خارجيتها عادل الجبير الذي أعلن تأييده بلاده لقرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. وهنا نتذكر موقف السعودية من توقيع الاتفاق المشار إليه حيث اعتمد علي قناعة الرياض آنذاك بضرورة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط والعالم. بيد أن ما فعلته إيران لاحقا هو استغلالها العائد الاقتصادي من رفع العقوبات عليها واستخدمته للاستمرار في أنشطتها التي زعزت من خلالها استقرار المنطقة بكاملها. فلم تتوان إيران عن  تطوير صواريخها الباليستية ودعم الجماعات الإرهابية في المنطقة بما في ذلك حزب الله وميليشيا الحوثي، التي استخدمت القدرات التي نقلتها إليها إيران في استهداف المدنيين في المملكة واليمن والتعرض المتكرر لممرات الملاحة الدولية. ويتركز موقف السعودية الأخير في ضرورة تحقيق الأهـداف المرجوة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي، بالتزامن مع  معالجة الخطر الذي تشكله سياسات إيران على الأمن والسلم الدوليين بمنظور شامل لا يقتصر على برنامجها النووي، بل يشمل كافة أنشطتها العدوانية بما في ذلك تدخلاتها في شؤون دول المنطقة ودعمها للإرهاب.
ربما يفيدنا موقف السعودية في فهم أبعاد القرار الأمريكي، خاصة في ظل ما يتحدث عنه الكثيرون في العالم كل فترة عن قرب نشوب حرب عالمية ثالثة كلما تصاعدت الخلافات بين إيران من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخري، فما تريده دول الخليج هو الأمان والاستقرار وعدم الاتجاه ناحية الحرب لأنها ستكون مدمرة للمنطقة وليست لإيران وحدها، ويكفي ما تشهده المنطقة من عواصف سياسية وعسكرية ناهيك عن موجات الطقس المتقلبة من عواصف وأتربة وارتفاع مفاجئ في درجات الحرارة، فالمنطقة لا تعيش في راحة حتي تأتيها أخبار الحرب. ونأمل أن تمر الأزمة علي خير مثل سابقاتها التي تكون إيران أحد طرفيها في الغالب، وأن تتمكن كافة الأطراف الدولية في لملمة الأزمة وحصارها بدون اللجوء الي خيار الحرب، التي شهدنا سيناريو لها ممثلا في الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية العسكرية في سوريا، في بداية المناوشات بين إسرائيل وإيران.
وبالنسبة لقرار ترامب لبقية شركائه في الاتفاق الذي تم توقيعه في إطار مجموعة (5+1) أي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين بالإضافة الي المانيا الشريك السادس في الاتفاق، لا ننكر أنه جاء مخيبا وصادما لآمالهم بعكس إسرائيل التى رحبت به واعتبرته انتصارا لها. ولم تفلح الجهود التي سبقت قرار ترامب والتي قام الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي ثم روسيا والصين، في جعل الرئيس الأمريكي يتراجع عن تهديده بالانسحاب من الاتفاق النووي. رأينا كم الجهود التي بذلتها بقية الدول الموقعة علي الاتفاق خصوصا الأوروبيين بهدف إنقاذه من الانهيار. فلماذا إذن كان هذا الحرص الأوروبى علي استمرار الاتفاق كاملا؟..هل بهدف عدم انهياره أم انقاذ تعاملاتهم الاقتصادية مع إيران؟.
فالدول الأوروبية  الثلاث الموقعة علي الاتفاق - ألمانيا وفرنسا وبريطانيا -  شركاء أصليين فى التوصل اليه، وبالتالي يرون أنه يجب التشاور معهم قبل اتخاذ أي قرار يتعلق به خاصة لو كان الانسحاب منه. ولكن لو علمنا حجم التبادلات الاقتصادية بين هذه الدول وإيران لأدركنا مدي اصرارها وحرصها علي استمراره، فالسوق الإيرانية منجم  مكاسب وإغراءات للشركات الأوروبية،  إذ بلغ حجم التجارة الأوروبية مع إيران منذ توقيع الاتفاق النووى فى يوليو ٢٠١٥،  نحو ٢٥ مليار دولار مقابل ب ٢٠٠ مليون دولار فقط للجانب الأمريكى. ناهيك عن صفقات تم ابرامها بين الأوروبيين والإيرانيين ولم يعلن عنها بعد  أو أخري فى الطريق بمليارات الدولارات . وقد نستوعب من خلال هذه الأرقام حجم المصالح التى تربط هذه الدول الأوروبية بإيران. أما في حال انهيار الاتفاق النووي، فقد تصبح كل هذه التعاملات والمصالح في مهب الريح وتنهار بين عشية وضحاها، خاصة في ظل التهديد الأمريكي بتجديد العقوبات الاقتصادية ضد إيران، مما يضع الشركات الأوربية في وضع صعب ماليا واقتصاديا. وثمة نقطة أخري في القرار الأمريكي باستنئاف العقوبات ضد إيران وهي عدم قدرة أيا من الشركات الأوروبية بالمجازفة والاستمرار فى التعامل مع إيران وتعرضها بدورها للعقوبات الأمريكية والخروج من النظام المصرفى العالمى الذى تهيمن عليه أمريكا.
وللأسف، تعاملت الدول الأوروبية ومعها روسيا والصين بدافع اقتصادي بحت مع الأزمة، رغم التوافق الأوروبي والأمريكي والخليجي علي أن إيران تمثل خطرا بسياساتها الإقليمية الحالية وتمثل عنصر عدم استقرار للمنطقة ويجب العمل على وقفها. فالأوروبيون يعلمون قبل غيرهم باستمرار قيام إيران بتجارب صاروخية وتطوير صواريخ باليستية تخل بموازين القوة فى المنطقة وتهدد استقرارها. ثم يدعي الأوروبيون عدم جدوي فرض أي عقوبات اقتصادية ضد إيران لأنها لم تنجح في الماضي من استمرار الأنشطة النووية أو تغيير النظام الإيراني من الداخل. ويزيد الأوروبيون في ادعاءاتهم بأن إيران تخلت طواعية عن برنامجها النووى والتزمت بما اتفقت عليه بشهادة المؤسسات الأمريكية ذاتها،  وأن المأمول حاليا ليس التخلي عن الاتفاق بل الحفاظ عليه ودعمه، كما أنهم يبالغون عندما يرددون زيفا أن سياسة واشنطن الجديدة بالمواجهة مع إيران ستقوي  شوكة المتشددين داخل النظام الإيرانى وتدفعهم لتبني خطوات تصعيدي بما يزيد التوتر وعدم الاستقرار فى المنطقة ودفعها إلى مزيد من الحروب والصراعات.
لا شك أن إيران تستفيد من الوضع الحالي بين الأوروبيين والأمريكيين، فقد نجحت في إحداث وقيعة بين الطرفين، وزاد عليها التشدد الصيني في ضرورة استمرار العمل بالاتفاق لأسباب اقتصاديحة صينية أيضا، وعلينا الانتظار لنري أي رؤية ستنتصر في النهاية علما بأننا لم نتطرق للموقف الإسرائيلي لتأييده التام لما أعلنه دونالد ترامب بل كانت إسرائيل من الدول المحرضة علي انسحاب الولايات المتحدة منه، والسؤال في الوقت الراهن :" أي طرف سينجح في فرض وجهة نظره علي الاتفاق؟ في تحول الموقف الي ما يشبه حالة الحرب بين المؤيدين لاستمراره والرافضين له، ولكن في النهاية نأمل ألا يتطور الموقف الي حرب عالمية ثالثة كما يتحدث البعض، فالمنطقة تعاني من يكفي من الأزمات ولا تتحمل المزيد من الإخفاقات وعدم الاستقرار، وهنا أذكر الجميع بحكاية "كيس الجرذان والفئران" لنستلهم منها حكمة الفلاح المصري في تقليب الكيس وهزه كل فترة حتي لا يرتاح من بداخله!
قبل الأخير..
ورغم كل ما سبق، يفوتني تهنئة الجميع بحلول شهر رمضان المبارك أعاده المولي عز وجل علي مملكتنا العظيمة وقيادتها الرشيدة وشعبها الكريم باليمن والبركات.

احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني