صدى العرب : الصبر بين العسر واليسر (طباعة)
الصبر بين العسر واليسر
آخر تحديث: الجمعة 17/11/2017 01:38 م
أحمد المرشد أحمد المرشد
 
 
ينتشر علي وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو رائع يجلس فيه الأب وابنه علي أريكة في حديقة المنزل وأمامهما شجرة يطير بين أغصانها عصفور وسرعان ما يغير موقعه من غصن لآخر، فيسأل الأب ابنه ما هذا الذي يجري ويقفز بين الأغصان، فيجيبه الابن:" عصفور" ويسكت.. ثم يعيد الأب نفس السؤال علي ابنه الذي يكرر نفس الإجابة.

 فالعصفور لم يتغير وهو  الذي لا يزال يقفز في ثنايا الشجرة وحولها. وفي أخر مرة سأل فيها الأب نفس السؤال، أجاب الابن وقد تملكه الغضب وحدة شديدة ظهرت علي ملامح وجهه:"عصفور" مضيفا :"ألم أقل لك هذا مرارا"..لم يحزن الأب الذي غادر مكانه لبرهة ليعود الي المشهد مرة أخري حاملا معه دفتر يوميات، ليقرأ علي ابنه مذكراته وهو طفلا عندما سأله والده نفس السؤال عن العصفور نحو 20 مرة ولم يغضب الأب وقتها بل شعر بالفرح والسعادة وكأنهما يلعبان معا بل كان يحتضنه في كل مرة يسأله فيها ويبتسم له. 

ينتهي مقطع الفيديو المعبر للغاية عن مدي صفة "الصبر" وفضلها علي الإنسان والبشرية، فالأب صبر علي أسئلة ابنه، ليس هذا فقط بل فرح بها واعتبرها دعابة ورد عيلها 20 مرة، فقد تحلي بالصبر، بعكس الابن الذي غضب واحتد علي أبيه لمجرد تكرار السؤال مرة أو مرتين.

 ينتهي المشهد بأسف ظاهر من الابن ليحضن أباه بعدما تعلم الدرس وأدرك تلك الفضيلة التي يتحلي بها الأنبياء وهي "الصبر".
 
ربما بدأنا بتلك الحكاية لأننا نراها صوت وصورة، في مشاهد متحركة ومعبرة في نفس الوقت، ولكن هذا لا يمنع أن ديننا الحنيف حثنا علي الصبر لأنه من أكثر الفضائل علي الإنسان، فالصبر مفتاح الجنة، واعتقد أن معظمنا شاهد جملة "الصبر مفتاح الفرج" في الدراما المصرية، فهي جملة تعلق جدران المنازل ويعتز بها المصريون جدا.

 وأمامنا حكمة أو مقولة بالغة عن الصبر قال الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه :"سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري.. سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري..سأصبر حتى يعلم الصبرأني صبرت على شئٍ أمرّ من الصبر".

 هذه الحكمة الخالدة تنطبق علي  سيدنا أيوب الذي أعطانا أروع الأمثلة في الصبر علي البلاء والمرض وذهاب المال والولد. فالمولي يختبر عباده بالصبر علي ما ابتلاهم ليعلم من يصبر منهم ممن لا يصبر، وليعلم المؤمن الحق من المنافق، وقد قال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) ]محمد:31[. وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)، رواه الإمام أحمد.
 
وتحكي كتب التراث أن رجلا سأل  عنترة بن شداد ذات يوم عن سر شجاعته وانتصاره علي الرجال، فقال عنترة:" ضع إصبعك في فمي وخذ إصبعي في فمك،  وعض كل واحد منهم الآخر، فصاح الرجل من شدة  الألم ولم يصبر، فأخرج له عنترة إصبعه". الحكاية لم تنته لأن الحكمة ستأتي في كلمات قليلة قالها عنترة للرجل ليجيبه علي سؤاله الأول:" بالصبر والاحتمال  غلبت الأبطال". 

فالمهم هنا أن الصبر لا يعني تحمل الصعاب فقط، ولكن أن يكون المرء علي ثقة بنتيجة ايجابية لصبره وأن المولي عز وجل سيقف بجانبه، فالصبر أمل وحياة، ولكن نفاده هو اليأس بعينه وقصر النظر الذي يؤدي الي نتائج لا تحمد عقباها، فالصابرون يدركون جيدا أن البدر يأتي بعد الهلال، و الفجر أت بعد ظلمة الليل، وهذا هو الصبر أن نتحمل ما ابتلانا الله به مع ادراكنا أن الرحمة آتية في الطريق، فالمرض يأتي معه الشفاء.

 وربما كان الصبر أكثر من هذا، فهو يعني قبولنا لابتلاءاتنا وما نمر به من صعاب بهدوء، وأن ننتظر فك الكرب بأكثر من وسيلة، وربما كانت تلك الوسيلة بعيدة تماما عما فكرنا فيه.
 
الطريف في الصبر، أن هذه الصفة ليست واحدة لدي الرجل والمرأة، فالسيدات يتفوقن فيها، إذ أظهرت دراسة لجامعة ستانفورد الأمريكية شملت 72 ألف مريض، أن النساء يتحملن حدة الألم أكثر من الرجال، وأن جسم الإنسان، يمكنه تحمل الألم بشكل تدريجي حتى يتأقلم معه مع مرور الزمن، ولكن لدي السيدات قدرة كبيرة على التحمل في هذا المجال بسبب خبرتهن الطويلة، خاصة ما يتعرضن له من ألم على مدار السنة من الدورة الشهرية والحمل والولادة.

 كما أكدت دراسة أخري لجامعة تشيكية، أن النساء يتحملن الألم بصورة طبيعية بشكل أفضل من الرجال عن طريق الاستعداد النفسي، بينما يحاول الرجال التخلص منه بشكل علاجي ودوائي، خاصة أن العامل النفسي له دور أساسي في تحمل الألم، حيث يتحول  إلى تكوين مواد داخل الجسم تساعد على تخفيفه ولا تقضي عليه تماما.

 وإذا كانت المقارنة لمصلحة المرأة في تحمل الألم والأكثر قدرة علي الصبر، فكبار السن يتميزون بالصبر أكثر من فئة الشباب ومتوسطي العمر، كما يتسامحون مع الألم نفسيا ويتحملونه أكثر لإعتقادهم أن الأمر طبيعي مع التقدم بالعمر، ولكن في هذا تتفوق المرأة أيضا عن الرجل المسن نظرا  لخبراتها الطويلة في القدرة علي تحمل مسؤوليات تفوق الرجال.
 
نعلم أن الحياة ليست سهلة ولا تسير علي وتيرة واحدة، فهي بين العسر واليسر، ويتعرض الإنسان فيها لصعاب كثيرة، ولكن ثمة حل وحيد للتغلب علي تلك الصعاب والمحن والابتلاءات، وهو التحلي بالصبر، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، فعدم الصبر يضيع الأجر ويزيد الأزمات.

 فالصبر ليس صفة فقط وإنما فضيلة أمرنا بها الله عز وجل، وحثنا عليها رسول الله صلي الله عليه وسلم. كما ان الصبر هو خلق وصفة الأنبياء والمرسلين، فكلهم كابدوا المشقة وعانوا من الإيذاء والألم، ولكن مع صبرهم كافأهم المولي عز وجل  بالفرج. ويقول الله سبحانه وتعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ]الزمر[.

 ولدينا قصة رائعة في الصبر وهي ما كابده  سيدنا يعقوب عليه السلام من ألم فراق ولديه، فقد ضرب أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الألم حتي فقد بصره من كثرة البكاء علي فقدانه ابنه يوسف ثم بنيامين، ولكنه لم يفقد الأمل من رحمة  الله. 

وهو الذي قال لأبنائه بعد سنوات طويلة من الحزن وتحمل المعاناة : (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].. ولدينا في قرآننا العظيم آية تبعث علي الفرح برحمة الله : (وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
 
والصبر يعني النصر والمدد، إذ وعد الله سبحانه وتعالي الصابرين بالنصر والمدد، قال تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125]، فإذا مر الإنسان بأشواك ليس أمامه سوي السير في طريق الصبر، لأنه يحمل أملا لا ينتهي، ونكمل به رحلة الحياة مهما كان بها من أحجار واحباطات وابتلاءات،  ومهما كان الواقع مرا فالغد يأتي بخيره وأمله والسعادة، فالصبر أول طريق النجاح ويحفظنا من السقوط في الهاوية لأنه يخلق القدرة علي التحدي بداخلنا والإصرار علي مواجهة واقعنا مهما تكاثرت همومه، فالأعمال العظيمة تتم بالصبر وليس القوة.

 والقوة لا تصنع إنسان، فإذا افترضنا شخصا غنيا وميسور الحال ولكن مر بأزمة عابرة أو مرض عضال، فما الذي ينجيه ويصل به الي طريق الشفاء؟..أنه الصبر وليس القوة والغني في هذه الحالة، فالصبر من شيم العظام، وكان قديما من شيم وصفات الرسل والأنبياء.
 
وأخيرا.. فالصبر ممارسة وبإمكاننا اكتساب مهارة الصبر حتي تكون من خصالنا الحميدة، ثم أن الصبر ليس رفاهية ولكنه ضرورة لأنه سر النجاج في الحياة التي ربما ترهقنا ولكننا أيضا نستطيع أن نرهق الحياة بالصبر عليها، فالآلام تتبدد والهموم ستنتهي لا محالة، ويبقي لنا الصبر وهو هدية من الخالق عز وجل الذي يقول في كتابه الحكيم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
 
أحمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني