صدى العرب : رسالة أمهات شهداء مصر (طباعة)
رسالة أمهات شهداء مصر
آخر تحديث: الجمعة 03/11/2017 03:07 م
أحمد المرشد أحمد المرشد

 

"وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" لقمان:14..ربما نقتصر من تلك الآية علي  جملة الأم " حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ"، وليس كل أم نتحدث عنها، ولكننا نتحدث عن أم الشهيد، فالأم التي حملت وتحملت الصعاب والضعف والمرض أثناء فترة الحمل، علي أمل أن تري ابنها يكبر أمامها ويصير رجلا صالحا في مجتمعه، وإذا كان الحديث عن الصلاح والتقوي وخدمة الوطن، فليس هناك أغلي من شهداء الوطن ومن حملن شهداء الوطن وزرعن في قلوبهم حب التضحية والإيثار.

 

لقد شهدت مصر أحداثا إرهابية كثيرة خلال السنوات الماضية ويبدو أن حملة مواجهة الإرهاب مستمرة لفترة، فالإرهاب يتسلح بكل أسلحة الشيطان ولا دين له، وفي كل واقعة إرهابية يسقط فيها شهداء تعيش أمهات مصر مأساة حقيقية، ربما كان أصعب مشاهدها تلك الأم التي أصرت علي حمل نعش ابنها الشهيد الذي لقي ربه في عملية الواحات الإرهابية في أخر حوادث التطرف في مصر، فمنظر الأم أبكي كل المصريين ولم يستطع أحد أن يثنيها عن حمل نعش ولدها، فلذة كبدها الذي تراه صغيرا مهما كبر، فهو وليدها الصغير، ويكتب لهذه الأم العظيمة أنها لم تبك ابنها ولماذا تبكي :" فهو شهيد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون..أنه شفيعي يوم القيامة أنا ووالده وأشقائه".. يالله علي تلك الشجاعة والثبات، فالأم لا تبكي أحدا مثل ابنها الذي حملته وهنا علي وهن في تسعة أشهر، فالابن هو أغلي ما في حياتها وكونها الصغير، وتقضي حياتها كلها تربي ابنها ليكبر أمامها وتعامله علي أنه ما يزال طفلا.

 

لقد أبكتنا حقا تلك الأم، فهي رفضت أن يبكيه أشقاؤه "فهو شهيد، وتقول إن  استطعت تقديم غيره لمصر لقدمت وفديته بها "، إنها أم الشهيد المصرية، التي تشارك بقلبها وعقلها وكل ما تملك في مكافحة الإرهاب الأسود، فالمواجهة هنا لا تقتصر علي التعامل الأمني ضد الإرهابيين، فالأم المصرية تشارك هي الأخري في هذه الحرب وتقدم كل عزيز فداء للوطن.

 

في مصر ظاهرة حقا تستدعي الدراسة، فأمهات الشهداء يشاركن في تشييعهم حتي لحظة دفنهم بروح كلها تحدي للإرهابيين، فالأم المكلومة بفراق ابنها بعد أن حملته وهنا علي وهن وأرضعته، تسابق المشيعين في حمل نعش ابنها حتي تودع فلذة كبدها وهي تكبر وتهلل، لتكون بجانبه حتى اللحظات الأخيرة. إنها لحظات صعبة، لحظة الفراق ورؤية الابن للمرة الأخيرة ملفوفا بعلم بلاده.

 

وأم أخري والدة أحد الشهداء أصرت على المشاركة في تشييع ابنها وحمل جثمانه في رسالة تحدي منها للإرهابيين مؤكدة أنها لن تخضع  الي محاولات قهر الأمهات، هذه الأم الشجاعة قالت إن أعداء الوطن لن يفرحوا برؤيتها تذرف الدمع، فابنها الشهيد يستحق الفرح وليس الدموع، فهي افتدت به وطنها الغالي الذي لن ينكسر.

 

وحتي أكون منصفا، فالمرأة المصرية عموما تقدم الشهداء للوطن، فالأم التي كتبنا عنها وأصرت أن تحمل نعش ابنها الشهيد ليست وحيدة، فهناك زوجة الشهيد أيضا التي تظل تبكيه مدي الحياة وتحافظ علي أولاده بقوة وثبات، فما لها من امرأة يشار إليها بالبنان، فهي ودعت حياة الزوجية لتظل وفية لذكري زوجها الشهيد.

 

ولنتخيل معا كم هي صعبة لحظة ابلاغ الأم أو الزوجة باستشهاد ابنها أو زوجها، فبعد كل عملية إرهابية يعلن عنها يبقين علي اتصال دائم بمقار عملهم والمواقع الإخبارية لمتابعة ما يجري علي الأرض، حتي تأتي اللحظة الفارقة التي ينكسر فيها الفؤاد، فهي لحظة ما أصعبها، لن نقول علي الأم والزوجة فقط، فهي لحظة صعبة أيضا علي كل عائلة الشهيد وأصدقائه وأقربائه.

 

ومن الحكايات المؤثرة ما يرويه شقيق أحد شهداء عملية الواحات الإرهابية :" اتصل بى زميل له وأخبرنى بمشاركة أخي بالحادث، ولكنه لم يبلغني بالتطورات  كلها وأراد أن تكون تدريجية، ليوجهني في النهاية بالذهاب الي مستشفى الشرطة، وهنا صدق حدسي وأدركت أن أخي أصبح من عداد الشهداء فلم اتمالك نفسي وأنا أبكي، وكان كل همي كيف أبلغ أمي وأبي بالواقعة، ومن فرط حزني أبلغت والدي فقط لأني أعرف مدي وقع الصدمة علي والدتي، ولكنني فوجئت بوالدتي التي تخطف التلفون من والدي وتبلغني بشهادة ابنها دفاعا عن تراب الوطن ضد أعدائه الإرهابيين". هذا الشهيد الذي نحكي عنه كان الله كتب له النجاة في عملية أخري وحزن وقتها حزنا كبيرا لأنه لم ينل الشهادة، أعظم خدمة لوطنه، وقد تمني وقتها أن يكون شهيدا بدلا من زملائه، وقال آنذاك لأصدقائه وعائلته :"إن الله يصطفى الشهداء وأراني قريبا منهم" الي أن تحققت أمنيته. قصة هذا الشهيد لم تنته بعد، حيث أصر والده علي معرفة تفاصيل استشهاد نجله ولم يهدأ إلا بعد أن علم أن نجله تعرض لرصاصة في صدره وليس في ظهره فأدرك أنه واجه الإرهابيين بقوة وشجاعة وكان مقاتلاً صلدا ولم يهرب من المعركة، فضرب هذا الأب  مثالا في القوة والصبر.

 

إنها حقا منزلة الشهداء التي لا يستحقها إلا من اصطفاهم لها المولي عز وجل،  ولا يستحقها سوي الأبطال الذي يتمتعون بخلق الشهداء، فكل الأمهات والأباء الذين  استشهد أولادهم وهم في عمر الزهور، وقبل أن تصعد أرواحهم الي السماء منحوا لقب "أم الشهيد" و"أبو الشهيد" لوالديهم وهي شهادة لوتعلمون عظيمة.

 

ولعل أنشودة أمهات الشهداء ترثي فلذات أكبادهن بقولهن:" ياوطن الشهداء لك النصر والكرامة..فديناك بقلوبنا الصابرة، فكل شئ يهون من أجلك ياوطني، فأولادنا قرابين لك من أجل نصرتك الكبري علي أعدائك، فوهبنا أبناءنا خزائن الأمل لأجيال قادمة ستنعم حقا بالاستقرار والأمان، لقد فرحنا بيوم مولدهم وبيوم استشهادهم فكلاهما عيد.ولعل رسالة المرأة المصرية الشجاعة تتلخص في أنها تحمل إبنها مرتين، الأولي وليدا حديث  العهد بالحياة فرحة بقدومه، والثانية وهي تزفه شهيدا ملفوفا بعلم بلده في موكب بطولي..إنها الأم، فكما هي رمز الحياة فهي رمز الوفاء والعطاء، وهي المدرسة العظيمة التي تضحي بأبنائها فداء للوطن الذي يرتوي بدمائهم، تلك الدماء التي كانت هي المورد لها برضاعتها لهم.

 

أنهن أمهات الشهداء اللواتي يستحققن لقب "أصحاب مدارس الأبطال"، المؤمنات بإرادة الله الذي يختار أبناءهن الي أعظم منزلة في الوجود، منزلة الشهداء والفردوس الأعلي، فالشهادة شرف ما أعظمه شرف ومنزلة عند المولي عز وجل كبيرة وعظيمة. ياكل أمهات شهداء مصر، وكل أباء شهداء مصر، يحفظكم العلي القدير بأبنائكم المكرمون.

 

لم تكن عملية الواحات الإرهابية في مصر سهلة، فهي من أضخم العمليات التي واجهت قوي الأمن، فهي محصلة عمل إقليمي ضخم وتعاون بين جماعات وأجهزة استخبارات عالمية، ولكن الأهم أن نتائج الحرب المصرية علي الإرهاب تؤتي ثمارها، والعبرة بالنهاية، فقد استشهد ضباط مصر وجنودها وهم يحتضنون أسلحتهم، فالحرب ضد الإرهاب مستمرة لا هوادة فيها، وسينهزم هذا الإرهاب طالما كان في الوطن شباب يسارع الي الشهادة وأمهات يشاركن في زفاف أبنائهن حتي مثواهم الأخير وهن يزغردن فرحا بأعظم هدية وهي الشهادة في سبيل الوطن، وطن سينتصر حتما علي الإرهاب ويدحره.