صدى العرب : من طول الغيبات جاب الغنايم (طباعة)
من طول الغيبات جاب الغنايم
آخر تحديث: الأربعاء 06/10/2021 01:14 م
السفير: خليل الذوادي السفير: خليل الذوادي
عندما كانت لقمة العيش تتطلب جهودًا مضنية في وقت شحت فيه الوظائف والمهن إلا مهنة الغوص على لؤلؤ المحار، والقطاعة في سفن كانت تمخر عباب بحر الخليج العربي لتصل إلى المحيط الهندي والبحار الأخرى القريبة، للتجارة وتبادل السلع..

كان الأمر يتطلب البعد عن الأوطان لمدة طويلة يحسبها المنتظرون كأنها أشهر وسنوات، فكان عزاؤهم أن يقولوا: «من طول الغيبات جاب الغنايم»، وكأنهم بالفعل ينتظرون ما سيأتي به المسافرون لمدد طويلة، حتى كانوا يقولون: «صبرت حتى مل الصبر من صبري». لم يكن بمقدور هؤلاء الأجداد والآباء إلا الصبر عن العودة إلى الوطن لكي لا تكون أيديهم فارغة أو لا ترضي أهل بيتهم الذين يأملون أن يكون الخير على أيدي هؤلاء المغتربين، فكان شعورهم أنهم يتحملوا الصبر والمشقة إلا أن يأتوا وأيديهم فارغة أو حتى بأمور لا ترضيهم وترضي من ينتظرونهم، فقد كان شظف العيش عسيرًا عليهم ومشقته لا تعادل ما يحصلون عليه نتيجة كدهم وتعبهم وسهر الليالي وتحمل مشاق وأهوال البحر وأمواجه العاتية، وصبرهم على ما يواجهونه من بعد عن الأهل والوطن، فكان شعورهم بالحصول على ما يرضي طموحهم أو أقل من ذلك أو أكثر يمثل هاجسًا لهم وشعورًا منهم أن الكل كان يترقب عودتهم سالمين ومحملين بكل أطياب ما يشتهيه أهل بيتهم وأولادهم، ويكون هناك المبرر لهم لغيبتهم الطويلة والمملة بالنسبة لهم. 

كان أهلنا في المحرق ينتظرون مجيء المسافرين، وكذلك أهلنا في المنامة والحد، والبستين والبديع والزلاق وسماهيج والدير وقلالي والجسرة والمالكية ومختلف مدن وقرى البحرين الساحلية وحتى تلك التي ليست ساحلية، فرجالهم كانوا يبحرون على سفن القرى والمدن الساحلية الأخرى، فقد كانت «المحامل» أي السفن تضم مختلف أبناء الوطن بالإضافة إلى جيرانهم من البلاد التي احتاج أهلها أن ينضموا إلى أبناء البحرين طلبًا للرزق وما كانوا يلقونه من اهتمام بهم من أهل البحرين الذين شعروا بالواجب الوطني والقومي تجاه الآخرين، فالسفن كانت بحاجة إلى رجال، والرزق من الله سبحانه وتعالى وكانوا يقولون «الرزق الذي يكفي واحد يمكن أن يكفي اثنين، والذي يكفي عشرة يمكن أن يكفي عشرين»، وهكذا هم كانوا «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون» سورة الحشر الآية 9. 

لقد ورثنا عن أجدادنا وآبائنا السعي لطلب الرزق أينما كان، وفي أيام العطل الصيفية التي تمتد عادة إلى ثلاثة أشهر حثنا الأهل على العمل مع البنائين، ومهما كان الأجر ضئيلاً لا يهم والمهم كان عندهم أن نعمل بكد أيدينا ونوطن النفس على تحمل المشاق ومعرفة أن الرزق لا يأتي بالسهل، وحتى عندما كنا في مراحل متقدمة من العمر ذهبنا إلى المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، وتحديدًا في الدمام والخبر، واستخلصنا رخصة عمل من إدارة العمل والعمال هناك وبحثنا عن أعمال مؤقتة للصيف، وهي أعمال حرة لتجار المنطقة الشرقية، وكانوا جزاهم الله خيرًا مرحبين وميسرين للعمل في شركاتهم. 

كذلك كان تجار البحرين يرحبون بأبناء الخليج العربي للعمل مؤقتًا أو دائمًا في شركاتهم وتجارتهم. ولم يشعروا يومًا بالغربة عن الوطن لأن المعاملة الطيبة كانت هي عنوان تلك المرحلة من تاريخنا الوطني، وأحسب أن أهل البحرين لا يزالوا يتذكرون ذلك ويؤمنون حتى اليوم بحتمية الإيمان بالعمل المشترك لأبناء خليجنا العربي وأمتنا العربية؛ فالشعور الوطني هو شعور إنساني بامتياز، فنحن نتشابه في المشاعر والأحاسيس، ومصيرنا أن تأملنا واحد وهذا يتطلب منا جميعًا أن نعمل سويًا بما يرضي الله ويرضي ضميرنا الوطني وأحاسيسنا الوطنية والقومية. 

«من طول الغيبات جاب الغنايم» ظاهرة نلمسها حتى اليوم وإن اختلفت الوسائل والسبل والمفاهيم، فاليوم نلمس أن بعض الدول العربية والصديقة والأجنبية تعيش على تحويل مواطنيها من العملات من البلدان التي يعملون بها، وهذا ليس بغريب، فإن للغربة ثمنًا وجهود المواطنين تقدر، سواء كان ذلك في داخل الوطن أو خارجه. 

والتعب الذي يتحمله المغتربون لا بد أن يأتي لهم بالخير وكذلك على أوطانهم. مواطنونا والحمد لله تدربوا وتعلموا وشقوا طريقهم في الحياة، ونحتاج طبعًا إلى الإيمان بقدراتهم وإمكاناتهم، وعلينا إتاحة الفرصة لهم للتدريب وصقل قدراتهم وإمكاناتهم، وبالتأكيد الجميع يحرص على اقتصاد بلاده ويسعى جاهدًا لتنويع مصادر الدخل، وإيجاد فرص للعمل متنوعة وهذا لا يكون إلا بالعلم والمعرفة وصقل القدرات والمواهب والملكات البشرية. وكما صبر الأجداد والآباء وتغربوا من أجل لقمة العيش فنحن أيضًا بحاجة إلى العلم والمعرفة في بلادنا والتدريب على المهن والوظائف التي تسهم في الاقتصاد الوطني وتزرع الأمل في النفوس، لكي نعيش بأمن وأمان وقدرة على الإنجاز الوطني والتعاون المشترك لخير هذه البلاد وخير أبنائها ومن أجل مستقبل الأجيال المقبلة، والشعار الذي يقول: «المواطن هو الخيار الأول» هو شعار في محله وتفعيله يحتاج إلى صبر وأناة وسعي حثيث لصقل القدرات والمواهب والاستفادة من الخبرات الوطنية في مختلف المجالات. 

وبالتأكيد سيصدق علينا القول: «من طول الغيبات جاب الغنايم». 

وعلى الخير والمحبة نلتقي..