صدى العرب : فرانك كابريو.. قَاضِي الرَّحْمَة.. الْقَاضي كَمَا يَجِبُ أنْ يَكُون (طباعة)
فرانك كابريو.. قَاضِي الرَّحْمَة.. الْقَاضي كَمَا يَجِبُ أنْ يَكُون
آخر تحديث: الأربعاء 24/02/2021 09:19 م
د. هايدي عيسى د. هايدي عيسى
أجواء داخل قاعة محكمة كما لم ترها من قبل، جلسات قضائية لقاضٍ من طراز مختلف، يُصدِر أحكامًا لصالح المتهمين، ويُسقِط عنهم المخالفات، رغم اعترافهم بالفعل المخالف للقانون!؛ احتكامًا منه لروح القانون، قاضٍ نبيل لا يقف كثيرًا عند من يقول عنه أنه مُتساهل، قاضٍ حكيم تجاوز الرابعة والثمانين عامًا، يعمل قاضيًا لدى بلدية بروفيدنس Providence  الأمريكية، قاضٍ ذاعت شهرته وملأ العالم بصدى جلساته التي ملؤها البكاء الممزوج بالفرح وعدم التوقع. 
يكفيك أنْ تكتبَ في محرِّك بحث جوجل فقط كلمتي (القاضي الأمريكي) ومن دون اسم، وستجد اسمه وصورته هما أول ما سيُرشَّحان لك، إنه قاضي الرحمة والإنسانية -كما يُعرف عنه- فرانك كابريو Frank Caprio.
إنَّ ما يُميِّز أحكام القاضي فرانك وتوجهاته وطرق تعامله في القضايا التي ينظرها يتمثَّل في تطبيقه الأمثل لروح القانون في هيبة محاطة بتواضع يُجبِر مَن يَمثُل أمامه على احترامه، مع سعي حثيث من قِبل القاضي للتخفيف من حِدَّة قلق من يَمْثُل أمامه وتوتره.
فإذا كان معلومًا للجميع ما لدى القاضي من السلطات التي تُمكِّنه من توقيع العقاب على المتهم؛ إلَّا أنَّ القاضي فرانك يتلطَّف مع المتَّهمين للغاية، ويرأفُ بهم بمجرد أنْ يشعر بحاجة أيٍّ منهم (المفرطة) لذلك، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال مشاهدة فيديوهات جلساته التي تُعرَض على البرنامج التليفزيوني Caught In Providence (مقبوض عليه أو محاصر في بروفيدنس)، الذي تمَّ الإعداد له خصيصًا لعرض هذه الفيديوهات، والذي جاوزت مشاهداته 300 مليون مشاهدة. 
وعن طبيعة القضايا التي ينظرها القاضي فرانك؛ فإن معظمها جُنَحٌ تتعلق بالمخالفات المرورية؛ كمخالفات صفِّ السيارات، أو تجاوز السرعة، أو تخطِّي إشارات المرور الحمراء، أو ما شابه ذلك...
وها هي واحدة من أشهر جلساته التي استمع فيها لدفاع متهم يبلغ من العمر 96 عامًا عن نفسه، في قضية سير بسرعة قصوى في منطقة المدارس بولاية رود آيلاند الأمريكية، والتي دافع فيها المتهم عن نفسه قائلاً: (إنَّه كان يسير بهذه السرعة لمحاولة الوصول بابنه المريض صاحب الـ 60 عامًا إلى المستشفى لإنقاذ حياته من نوبة قلبية، خاصة وأنه يعاني من الشلل)؛ ففي ظلِّ هذه الملابسات لم يجد القاضي فرانك بُدًّا من أن يُحيِّي العجوز المتهم ويُسقط التهمة ويُبَرِّئه، ويُوجِّه له كلمات معدودة لم يكن يعلم أن صداها سيصل للعالم بهذه السرعة قائلاً: "إنْ كنتَ أنت في التسعين وقلقًا على ابنك صاحب الـ 60 عامًا لأنه مريض، فأتمنى أن أكون أنا كذلك مع أبنائي، لقد سقطَتْ عنك التهمة لأنك أبٌ رحيمٌ"!
وما فعله القاضي فرانك كابريو مع هذا العجوز لا يختلف كثيرًا عمَّا فعله مع سيدة متهمة في قضية تراكمت عليها عدَّة مخالفات بلغت قيمتها 400 دولار؛ إذ دخلت في نوبة بكاء أثناء جلسة المحاكمة بعدما سردت قصة ابنها الذي قُتل مؤخَّرًا وتراكمت عليها مخالفات السير بسرعة قصوى خلال عملية بحثها عن قتلة ابنها، مبيِّنة كم الصعوبات التي واجهتها في العودة لحياتها الطبيعية بعد هذا الحادث الأليم، ففي ظلِّ هذه الأحداث حكم "قاضي الرحمة" بإسقاط كلِّ تلك المخالفات عن هذه السيدة، مؤكِّدًا موقفه بالقول: إنه "قد أخذ بعين الاعتبار القصة المروعة لهذه السيدة، ولا أحد يريد أن يمرَّ بتجربة كهذه؛ لذلك فأنا أُسقط كافة المخالفة عنها"، وجدير بالذكر أن فيديو القضية المذكورة قد حصد قرابة 170 مليون مشاهدة، وتمت ترجمته لتسع لغات!
فيديو آخر مؤثر، حصد مشاهدات تزيد على 27 مليون مشاهدة عبر "فيسبوك"، ينضم لقائمة مقاطع جلسات القاضي الإنساني، لسيدة سورية متهمة بمخالفة السرعة، وجاءت لتَمْثُل أمام المحكمة وهي لا تُجيد التحدُّث بالإنجليزية؛ ما دفعها لتُحضِر معها ابنتها الصغيرة لمساعدتها في الترجمة، وهو ما أثار إعجاب القاضي، وبعد أن حاور الطفلة ذات الثمانية أعوام تقريبًا حوارًا لطيفًا طلب منها أن تُصدِر هي الحكم على أمها بتخيير الطفلة بين بعض الأحكام! لتَسْقُطَ في النهاية المخالفة.
وها هو عجوز دمشقيٌّ لاجئ يُدعَى "سيف" يَمْثُل أمام القاضي فرانك متهمًا بمخالفة صفِّ سيارته في غير المكان المخصص لذلك، مدافعًا عن نفسه بأنه ذهب عشر دقائق ليحضر العشاء من متجرٍ، وما أن عاد إلَّا وفوجئ بتذكرة مخالفة قيمتها 30 دولار، على إثرها استنجد العجوز بالقاضي وطلب منه أن يُساعده في أن يرفع عنه ثمن المخالفة، واستتبع الرجل مُعبِّرًا عن مدى حزنه بسبب الحروب وويلاتها وشدَّة ما تعانيه بلاده ورغبته في السلام لكلِّ العالم، وبالفعل ما كان من القاضي فرانك الذي ظهرت عليه ملامح التعاطف مع اللاجئ السوري إلَّا أنْ أسقط عنه الغرامة.
وأخيرًا وليس بآخر: فها هو القاضي فرانك يترأس جلسة محاكمة المبتعثة السعودية «تهاني المنيع» ويعفيها من قيمة الغرامات المرورية الستِّ التي كانت مطلوبة منها بعدما قرَّر في البداية تخفيض قيمتها فحسب، وذلك بعدما أبلغته أنَّ نافذة سيارتها قد تم كسرها أثناء وقوفها في نفس المكان الذي تمَّ تغريمها فيه على اعتبار أن هذا الفعل قد كلَّفها بعضًا من المال؛ وما ذلك إلَّا لقناعة القاضي بأهمية إعمال روح القانون، وهو ما لاحظه من حيثيات ووقائع مخالفتها بعدما أجرى معها القاضي فرانك حوارًا راقيًا لم تكن تتوقعه هي نفسها بعدما سألها عن حياتها ودراستها والمدينة التي كانت تعيش فيها أثناء دراستها.
الشاهد: أنَّ تَوجُّهات هذا القاضي وتصرفاته دفعتنا لتتبُّع الظروف التي نشأ وتربَّى فيها؛ فحتى وإن اعترفنا أنه ليس كلُّ من مرَّ بصعوبات في حياته يشعر بمعاناة الآخرين، إلَّا أن البادي هو أن الحياة التي عاشها القاضي فرانك كان لها دورٌ أصيل في بناء قناعاته؛ فبحسب ما كُتب عن بداية حياة القاضي فقد ولد لأب إيطالي مهاجر كان بائعًا للحليب، وكان هو الآخر يدفع فواتير زبائنه ممن لا يستطيعون السداد، على الرغم من بساطة حاله! بحسب صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، وكأنَّ الوالد هو من غرس في ابنه هذا القدر من الإنسانية التي تجعلنا نشعر ونحن نشاهد جلساته أنَّنا لسنا في قاعة محكمة أساسًا!
كما قيل عن القاضي فرانك أنه قد غسل الصحون ومسح الأحذية في بداية حياته!! كي يتمكن من تأمين مصروفات دراسته للقانون، ثم عمل مدرسًا بإحدى المدارس، وبحسب ما صرح القاضي نفسه فقد عمل في ثلاث وظائف في إحدى مراحل حياته؛ ليؤمِّن طلبات أبنائه الخمسة الذين ولدوا خلال سبع سنوات متتالية.
ولعل خير ما يُختتم به المقام ما قاله القاضي الرحيم فرانك -بحسب صحيفة الديلي ميل- من أنه: 
"عار عليَّ أنْ أُمثِّل سيادة القانون وأنْ أحكم على شخص بما لا يستحقه". 
وأخيرًا.. إنَّ القاضي فرانك بمثل هذه التصرفات الرصينة قد رسَّخ -ويرسخ- في الجميع حبَّ العدالة، بل حبَّ الالتزام بالقوانين، ولا شكَّ أننا بحاجة لهذا وذاك.

(*) مدرس القانون الدولي الخاص كلية الحقوق - جامعة القاهرة