صدى العرب : منزلة العقل في كتاب جابر عصفور "دفاعا عن العقلانية" (طباعة)
منزلة العقل في كتاب جابر عصفور "دفاعا عن العقلانية"
آخر تحديث: الثلاثاء 23/02/2021 12:28 م
د. قيس العزاوي د. قيس العزاوي
من سفر التكوين استل جابر عصفور صرخة امل دنقل ووضعها بمكانها اللائق في اولى صفحات الكتاب، صرخة يصف فيها دنقل ما اصبح عليه العقل في وطننا العربي، اذ هو "مغتربا يتسول، يقذفه صبية بالحجارة... !! أية بداية مأساوية لوضعية العقل يرصدها الكاتب ليوقظ الغارقين في سبات الجهل.. وفي "مفتتح" الكتاب يجزم عصفور ان الحداثة والتحديث والعقلانية هي طرق المستقبل في حياتنا. وان العقلانية هي التي تحرك الحداثة والتحديث ولا تكتمل الا  في مناخ الحرية.

وكما يربط فيكتور هوجو الحرية بالعلم فيقول تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل، فإن عصفور يؤكد ان ازدهار الحضارة العربية الاسلامية ظل قرين ازدهار العقل والعلم. ويعلن الكاتب عن عقلانيته التنويرية فيجدها مرتبطة بعقلانية المعتزلة من جهة وبعقلانية ابن رشد من جهة ثانية، مدركاً الفارق الزمني ( ثلاثة قرون) ما بين العقلانيتين.. يعي عصفور هذا الفارق ويشير إليه فهو، كما عرفته عن قرب، يرى مثل المعتزلة تغليب العقل على النقل، والفكر قبل السمع. وكما ينشد ابو نصر الفارابي السعادة من العلم والمعرفة، ينشد جابر عصفور العدل من العقل والحرية لاقتران العقل بالحرية والعدل.

لقد اطلق مؤسسو الصالون الثقافي العربي على استاذنا الكبير جابر عصفور بمناسبة عيد ميلاده السبعين لقب "حارس التنوير" تقديراً لدوره الرائد في حقل التنوير، فقد خصص عدد كبير من كتبه في خدمة التنوير مثل: التنوير يواجه الظلام، محنة التنوير، دفاعاً عن التنوير، هوامش على دفاتر التنوير، للتنوير والدولة المدنية، أنوار العقل، ودفاعا عن العقلانية.

وقد شرفني عصفور بطلب ان اكتب مقدمة لكتابه"جابر عصفور: حارس التنوير" ومما كتبت حينها(2014) أنه" الى جانب كونه أديباً وناقداً ومفكراً فهو مناضل معتد بافكاره، ومدافع صارم عن مبادئه، نزيه صادق في الوقت نفسه، ولديه إصرار على محاربة التخلف الفكري والتمسك بفكر التنوير حتى استحق عن مقدرة وجدارة لقب "حارس التنوير".

كتابه الاخير "دفاعاً عن العقلانية" موسوعة فكرية قسمها الى ثلاثة اقسام باربعة عشر فصلاً، تناول فيها التراث العقلاني من: منزلة العقل لدى المعتزلة وابن رشد الى ايمان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بالعقل والعدل وتمثلهما في تجربته الباريسية، الى العقلانية الاسلامية المحدثة في مناظرة الامام محمد عبده وفرح انطون ومحورية الفكر الاعتزالي في تجربتهما الخاصة بالدين والعلم والمدنية.

عشرات الموضوعات الفكرية عالجتها فصول الكتاب بعمق وسلاسة في تفاصيلها، فنرى الكاتب ينقلنا من الشيخ امين الخولي ونظريته في تجديد الفكر الاسلامي الذي يراه تجديداً تطوريا في العقائد من خلال مفهوم تطوري للتاريخ، الى الفكر التجديدي لمحمود زقزوق الذي يهدي الكتاب لروحه ، الى ايمان طه حسين بحرية العقل لأن" العقل الحر هو الذي يتلقى العلم ويستسيغه مهما يكن مصدره " ويسجل عصفور حقيقة ان طه حسين كان متفائلا عندما تكلم عن تحرير العقل عام 1953 ولكن حلمه الليبرالي هذا ضاع .

والكتاب كما أسلفنا موسوعي لانه لا يبحث في تاريخ الافكار العقلانية ومريديها فحسب، ولكنه يبحث ايضا في رمزية الاحداث الكبرى وأثرها في إجراء التحولات، مثل تأسيس جامعة القاهرة التي اعتبرها يقظة العقل الجمعي، ومثل رمزية ان يكون قاسم امين مؤلف كتابي "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" سكرتيراً للجنة الجامعة. وينقلنا عصفور لاحتدام لفظي راهن بين الازهر داعية الدولة الدينية وجامعة القاهرة داعية الدولة المدنية فيلاحظ تشدد الخطاب الازهري مما ينم عن صراع بين عقلية الاتباع وعقلية الابتداع.

يفخر عصفور بعمله لاكثر من نصف قرن استاذا في جامعة القاهرة و18 عاماً في وزارة الثقافة التي اصبح وزيرا لها مرتين، مشيداً بالدور الابداعي الكبير لثروت عكاشة المؤسس الحقيقي لوزارة الثقافة المصرية وواضع استراتيجية ثقافية لدولة مدنية حديثة والمعبر عن طموحات عبد الناصر لتحقيق العدالة الاجتماعية والثقافية.

وينصف عصفور الى حد كبير نصر حامد ابو زيد الذي خصص له القسم الثالث بفصوله الثلاثة. تلك هي مكانة العقل عند جابر عصفور التي تكتمل عندما يدافع عن مكانة المرأة وحريتها في المجتمع ، على غرار ما فعله الفيلسوف دينيس ديدرو حين جعل تحرير المراة شرطا اساسيا للوطنية وجوهر للمواطنة.