صدى العرب : احتياجنا للحب بين إنت الحب وإنت عمري (طباعة)
احتياجنا للحب بين إنت الحب وإنت عمري
آخر تحديث: السبت 18/03/2017 12:54 ص
أحمد المرشد أحمد المرشد

 

من أفضل جلساتي مع الأصدقاء تلك التي نبتعد فيها عن الكلام في السياسة وأزماتنا التي لا تنتهي وكأننا خلقنا لنعيش فيها ولا نخرج منها أبدا، ولهذا أشعر بسعادة بالغة عندما لا يهم أحدنا بتساؤل خبيث كلنا نعرف الهدف منه. فمثلا يبدأ صديق بتوجيه سؤال لنا جميعا عن نتائج اجتماعات المفاوضات السورية أو اليمنية وخلافه، وهو يعلم علم اليقين تلك النتائج التي توصل إليها المتفاوضون، ولكنه يسألنا فقط لنضيع الجلسة في جدال عقيم عن مضمون تلك النتائج وكيف ستنعكس علي مسار الأزمة.

 

ولكني رفضت الانصياع لمثل هذه السجالات الأسبوع الماضي وقلت لماذا لا نستعيد جلسات الفلاسفة مثل أفلاطون أو أرسطو مع حوارييهما، فنطرح فكرة ونتجاذب الحديث بشأنها، وبشرط الابتعاد تماما عن عالم السياسة، سواء محلية أوعربية، وكان شرطا قاسيا علي الجميع بعدم الاقتراب من قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فنحن لا نريد الضحك بقدر ما  نريد قضاء الوقت نستمتع بمناقشات جادة.

 

وبما أنني صاحب الفكرة، فقد توجه لي الجميع وفوضوني بطرح سؤال محدد نتحدث فيه أو بمعني أصح "عنوان" لموضوع الليلة، وشعرت آنذاك بأنني لست في حاجة للتفكير في سؤال أو "رأس موضوع"، وكأنني كنت مهيأ لهذا تماما، فطرحت عليهم سؤالا :"ما هو الأهم.. الحاجة أم الاحتياج؟".

 

قضينا الوقت في الاجابة وطرح الأفكار، وسعي كل واحد فينا الي إقناع الأخرين بوجهة نظره، حتي كدت أخرج بنتيجة مؤداها إننا جميعا فلاسفة، ونسينا كم مر علينا من الوقت، واستمتعنا بالجدال الجاد، حتي جاء دوري في الحديث وكنت الأخير، رغم أنهم طالبوني بأن أكون المتحدث الأول، ولكني رفضت بما أنني الذي وجهت السؤال وكأننا في برنامج ومعي ضيوفي.

 

تحدث الجميع كما أسلفت، وأدلي كل صديق بدلوه في الموضوع، وبعضهم لم يجد أي فارق بين الحاجة والاحتياج، ربما لتشابه الأحرف، حتي جاء دوري لانتصب في مكاني وكأنني كبير الفلاسفة الذي يتحدث والكل يصغي إليه..ولم لا؟ فقد استخلصت كل تجاربهم وأحاديثهم ووجدتني اختلف عن بعضهم ، فكان رأيي في البداية أن الفارق كبير بين المعنيين، فالحاجة هي مطلب أساسي من متطلبات الوجود الإنساني، كالأكل والشراب، والحاجة إذن محسوسة أو مادية، فيما الاحتياج يميل نحو الشئ المعنوي المحكوم بالمشاعر والأحاسيس، وربما تكون الاحتياجات مكملة للحاجة المادية.. فالإثنان يكملان بعضها البعض، وعندما نقول الحاجة فقد نعني الحياة مثلا لأنها لا تستقيم سوي بالشرب والمأكل، ومن يستغني عنهما يفقد حياته بدونها بعد فترة قصرت أم طالت،  ولكن الاحتياج أكبر وأشمل، رغم ان عدم إشباعه لا يغيبنا عن الحياة، ولكنه يغيبنا عن السعادة ذاتها التي هي لب الحياة ومبتغاها، وبمعني أخر فالاحتياج هو من مقومات الحياة. ومن هنا كان الاحتياج أعمق شعورا في حياتنا، وعدم تحقيق احتياجاتنا يضيع قيمة الحياة وزهوتها وفرحتها.

 

ومن هنا أيضا، كانت الحاجة تبحث دائما عن تحقيقها ، رغم أن حاجات الإنسان معقدة ومتشابكة، ولكنه يميل الي تحقيق الأهم ثم الأقل أهمية كي يستمر في الحياة، فالبعض يميل الي تحقيق الحاجة الي النجاح، والأخر يسعي طوال حياته ليحقق الحاجة الي كسب المال بوفرة، فالنظرة تختلف من إنسان لأخر وفقا لأولوياته..بعكس الاحتياجات التي إن تحققت جميعها ربما يشعر الإنسان بملل، وربما يدفعه هذه الملل للبحث عن احتياجات جديدة يشبعها. لأن المنطق يؤكد أن الإشباع الكلي للاحتياجات  يؤدى الى حالة ممتزجة من الكسل والملل، ومن هنا يبحث الإنسان العاقل عن التوازن بين إشباع هذا الاحتياج لأمر ما و الحرمان منه. وهذا أمر مفيد في حد ذاته. لماذا؟.. لأن الإنسان في حالة حرمانه أو شعوره بالحرمان من احتياج ما، تنشط لديه الدوافع بصورة لا إرادية، مما يجعله يسعي ويكد لإشباع إحتياجاته، كالحب مثلا، أو السعادة.

 

لم تنته مناقشاتنا بعد، لأنني تحدثت طويلا عن الاحتياجات الأساسية لأي إنسان في العالم، عربي، أوروبي، شرقي، غربي، أمريكي شمالي، لاتيني، مسلم أو مسيحي، فالاحتياجات واحدة لا ترتبط بمكان أو زمان أو ملة أو دين، فهي عناصر مشتركة في عالم الإنسانية. فكلنا في حاجة الي الحب، ليس هذا فقط هو الاحتياج الوحيد للبشر، فمنا من يفتقد الي انتمائه للمكان، وهو هنا فاقد للأهلية، والبعض يفتقد للاستمتاع بحياته، وهذا أيضا إنسان فاقد لإنسانيته وأهليته. ولهذا، فإن مقومات الحياة تعني كيف نشبع احتياجاتنا، مثل  الحب، البقاء، التغيير، تحقيق الذات أو الإنجاز، الاستقلال، التقدير، الانتماء،الاستمرارية، وكل هذا يؤدي بالطبع الي البقاء في هذا العالم الفسيح.

 

طال حديثي مع الأصدقاء عن تلبية الاحتياجات، حتي جاء دور الاحتياج للحب، فتحدثت بطلاقة حتي إنهم شعروا بهذا ولم أسمح لهم بمقاطعتي، واشترطت عليهم بأن أكمل حديثي بلا انقطاع لأنني لم أقاطع أحدا خلال حديثه، فكان حديثي عن  الحب شاملا، فاحتياجنا الي الوطن يجعلنا نتمسك بهذا الوطن ونحبه وننتمي إليه ونتمني ألا تنقطع صلتنا به، فاحتياجنا لحب الوطن يشمل كل معاني الاحتياج. وهكذا الحب العاطفي، فهو احتياج إذا ما تحقق وأشبعنا شعورنا بلذة الحياة وتذوقنا من طعمها، فالحب  هو الوفاء بمشاعر يشعر بها إنسان نحو الأخر، والحب لا يقتصر علي شخص بعينه، وإذا كان المولي عز وجل خلق فينا حب الأم والأب والأٍسرة والعائلة اللهم إلا من شذ عن هذه القاعدة، فالحب هو في رأيي هو أهم احتياج نسعي لتلبيته لنشعر بالسعادة.

 

فالحب احتياج بشري، اجتماعي، لا تستقيم المجتمعات إلا بتحقيقه، وبدونه يتزعزع أي مجتمع، فالحب يعني الألفة، الصداقة، الود والمودة بين البشر، والعيش في أمان وطمأنينة. حتي عندما نتحدث عن الحب العاطفي بين رجل وامرأة، فهو يعني العيش في استقرار وسعادة، وبه تتحقق السعادة والألفة في المجتمع. فهو في هذه الحالة، طاقة للإنسان يستلهم منها سبيل الحياة والنجاح وتتضاعف ثقته بنفسه، بل يستقوي الإنسان بالحب وترتفع معنوياته في الحياة ليحقق كل احتياجاته..ومن هنا أقول أن الاحتياج أهم من الحاجة، لأنه سابق لها، ويتقدم عليها، ومثالي في هذا هو إشباع احتياج الحب، فلو تم إشباعه بصورة سوية لتمكن أي إنسان من تلافي مصاعب الحياة حتي وإن تراكمت عليه أو كثرت.

 

لم أبالغ عندما قلت أن إشباع احتياجنا للحب يمدنا بالطاقة، وبدورها تمدنا بالفرح في هذه الحياة. ولم أبالغ عندما قلت أن الحب يعني الأمل، نعيش به ولولاه لضاقت الحياة بما رحبت من أشياء أخري، فالبائس ليس الإنسان الفقير، وإنما البائس هو الشخص الذي لا يحب، أو لم يستطع أن يحب، فهو بائس ويائس في آن واحد، وكلاهما يجعلانه يعيش وحيدا محبطا في هذه الدنيا، وبالتالي يفقد الثقة في نفسه، ولكن بالحب يعيش سعيدا، خلاقا، ودودا، محبا للأخرين.

 

وأنا اتحدث للأصدقاء تذكرت الأفلام المصرية التي كثيرا ما تحتوي قصصا عن الحب، فإذا كان بطل الرواية يعيش حالة حب، فنراه بشوشا ومنتجا ومنفتحا علي الجميع، أما إذا أصابه غم صدمه في حبه، فما له من قوة ولا ناصر، يبتعد عنه الجميع تجنبا لمرارات مزاجه. ولهذا، فإن الحب، وهو علي رأس الاحتياجات، يعني السعادة والمرح والانتاج والحالة المعنوية المرتفعة.

 

حتي في الأفلام الهوليوودية، وتحديدا التي تتحدث عن الحروب، نراهم يهتمون بتواصل الجنود مع من يحبون، ويهتمون أيضا بتوصيل الرسائل، فتواصل الحب والود يزيد انتماء الجندي لوطنه، وترتفع الهمة لديه، ويتناسي جروحه ومصابه بمجرد قراءة رسالة الحبيبة.

 

وبما أنني من عشاق أم كلثوم، وكتبت كثيرا عن سحر أغانيها وما فعلته في العشاق والمحبين، إلا أنني في تلك الأمسية انتابني شعور مختلف، خصوصا عندما تذكرت أغنيتها "إنت الحب"، فرغم روعة كلماتها، إلا أنني شعرت بأن معانيها تضاربت مع أفكاري وأنا أتحدث عن احتياجنا للحب والعشق، فهي في هذه الأغنية اشتاقت للحب، وتغنت عن عذاباته ومراراته، في حين كان كل كلامي عن أماله وسعادته. وكان حديثها عن الحب ما هو إلا لوعة وجرح ونوح وندم وحرمان  وغيرة. ولكنهاأي أم كلثومتعود لحالة الحب الذي تحدثت أنا عنه في "إنت عمري"، حيث تندم علي كل لحظة عاشتها في حياتها بدون حب "رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا\علموني أندم على الماضي وجراحه\اللي شفته قبل ما تشوفك عينيه\عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ"..فهل رأينا إنسان يبدأ عمره من لحظة بدء حبه "أنت عمري اللي ابتدي بنورك صباحه\قد إيه من عمري قبلك راح وعدّى\ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة\ولا داق في الدنيا غير طعم الجراح"..رأينا حبا يبدأ الآن، بحلاوته وعذوبته و جماله "ابتديت دلوقت بس أحب عمري\ابتديت دلوقت أخاف لا العمر يجري\كل فرحة اشتاقها من قبلك خيالي\التقاها في نور عينيك قلبي وفكري\يا حياة قلبي يا أغلى من حياتي\ليه ما قابلتش هواك يا حبيبي بدري\اللي شفته قبل ما تشوفك عينيه\عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ\أنت عمري اللي ابتدي بنورك صباحه.

 

اقترب حديثي من نهايته، وانتهت أمسيتي مع الأصدقاء متفقين علي أن الحاجة مادية، منفعة، أمر طبيعي، وهي لازمة للحياة، ولكن احتياجاتنا معنوية، وهي من مقومات هذه الحياة، فالمال مهم للحياة، ولكن الحب هو قلب هذه الحياة، وأملها وسعادتها وفجرها المشرق.