صدى العرب : المستشرقون والمستغربون ودوافع تزوير التاريخ الإسلامي .. (طباعة)
المستشرقون والمستغربون ودوافع تزوير التاريخ الإسلامي ..
آخر تحديث: الجمعة 10/02/2017 12:34 ص بقلم .. دكتور أحمد حسين النمكى ..


  هذه مقدمة لتوضيح الموقف الفكري والأيدلوجي للمستشرقين وتلاميذهم من المستغربين ، والدوافع الحقيقية وراء تزوير التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ، فهناك دافع قوى كان متوطناً لدى المستشرقين وهو التعصب المسيحي كما يقول توينبى بأن التعصب المسيحي ضد المسلمين ظل حياً في عقول كثير ممن نبذوا المسيحية نفسها . أي أن التعصب ضد الإسلام أصبح سجية لا مبرر لها !!

   وقد بدأت حركة تشويه وتزوير الظواهر التاريخية والحضارية المتعلقة بالتاريخ الإسلامي لأسباب ودوافع عديدة وقد ظهر ذلك في أسلوب التشكيك والتأييد للمذاهب السياسية والعقائدية ، أضف إلى ذلك نشاط حركات الغلو الفكري والعقائدي التي كانت منتشرة في العصور الوسطى والتي ظهر بعضها في التعصب العرقي والشعوبي وإحياء العنصرية والقوميات والتي كانت سبباً في ظهور حركات الغلو .

   لقد ساهمت الشعوبية الفكرية والنزعات العرقية السياسية بدور كبير في مناهضة عجلة التقدم الإسلامي ، الأمر الذي ساعد على وجود أناس مغرضين يتعمدون التزوير للحقائق والوقائع التاريخية التي مرت بأحداث التاريخ الإسلامي .

   إذن بدأت حركات التزوير من داخل المجتمع المسلم على يد أناس يحسبهم الكثير من الناس من أهل الإسلام ـ على نحو ما شرحناه في المقالات السابقة ـ وكان هذا الطريق الذي فتح للمستشرقين الأبواب من أجل تزوير وتشويه أحداث التاريخ الإسلامي ، مستندين في ذلك على أيدلوجيات الحركات المناهضة والتي كانت غير قابلة وغير راضية عن عجلة التقدم الإسلامي أو الفتوحات الإسلامية .

   وتعتبر حركة الاستشراق حلقة من حلقات البحث التاريخي التي لبست ثوب البحث العلمي والتنويري ولكنها كانت في حقيقة الأمر تسير في الطريق الذي يخدم الحركات المناهضة للإسلام بادعاء الموضوعية في البحث والمناهج . ومن المعروف أن المستشرقين قد تبنوا أفكار وآراء الكنيسة الغربية في تفسير التاريخ الإسلامي والدعوة إلى تبنى هذه التفسيرات زاعمين أنها التفسيرات الصحيحة ، فضلاً عن أن الكثير من هؤلاء كانوا يلجئون إلى تفسير التاريخ تفسيراً شعوبياً عنصرياً ، أو تفسراً غربياً مادياً تحت سيطرة المذاهب المادية التي دعت إلى أن الصراع الطبقي وصراعات الحضارات هو الأصل في تفسير حركة التاريخ .

   ولعلنا نذكر القارئ أن الفتوحات الإسلامية كانت البداية الحقيقة للانفتاح على الحضارات الأخرى والتواصل مع حضارات الشعوب والتأثير والتأثر الفكري بهذه الحضارات ، وهى تعادل في العصر الحديث حركة الاستغراب والتي يقصد بها الاطلاع على علوم وفنون الغرب مع مراعاة الفارق في الاتجاه ، إذ أن الرعيل الأول من حملة شعلة الإسلام كانوا يصبغون أفكار وحضارات الشعوب الأخرى بمذاق وتوجيه إسلامي ، بينما حركة الاستغراب كانت ـ وما زالت ـ تهدف إلى تبنى أفكار الغرب المسيحي والإلحادي بخيره وشره والدعوة إلى العمل بها .

   إن المسلمين الأوائل الذين وقفوا على حضارات الفرس والروم كانوا يترجمون كتب علمائهم بغرض الاستفادة من خير هذه العلوم ونبذ ما فيها من شرور ، أو على الأقل أن يقفوا على ما فيها داعين إلى الحذر مما فيها مما يخالف الإسلام ، على خلاف حركة الاستغراب في العصر الحديث ، فالمستغربون هم شرقيون ولكنهم آثروا أن يغيروا الصف ويسيروا في ركاب المستشرقين متأثرين بالانبهار العلمي الذي تأثروا به لدى هؤلاء المستشرقين ، فلم تكن حركة الاستغراب التي ظهرت في العصر الحديث من الأمور المحدثة على ساحة العالم الإسلامي ، بل إن حركة الاستغراب ما هي إلا حركة تكامل وتضامن مع الفكر الاستشراقى والتي نخلص منها إلى أن هؤلاء وهؤلاء كانوا يداً واحدة جمعت بينهم الأغراض التي تهدف إلى توجيه السموم ضد العالم الإسلامي ، فالمستغربون يعتبرون طابور خامس .

    الجدير بالذكر أن المستغربين أناس تشبعوا بأفكار ومناهج المستشرقين ، والذين يصدرون الفكر الاستشراقى إلى العالم الإسلامي ولكن بيد أبناء الشرق ، فهم يريدون تقديم السموم وتصديرها إلى بلاد الإسلام ولكن على يد أبناء ـ يدعون أنهم أبناء ـ الإسلام ، فالمشكلة لدينا ليست في حركة الاستشراف وحدها ، بل في حركة الاستغراب التي تبناها كثير من أبناء المسلمين .

   إن المستشرقين لديهم دوافعهم الدينية والمذهبية من أجل تزوير الحقائق التاريخية ، أما المستغربون فما هي دوافعهم في تبنى أفكار المستشرقين وتقليدهم آرائهم والدعوة إلى انتهاج طريقتهم وتفسيراتهم إلا الطعن في ثوابت العقيدة وحقائق الإسلام مثلما فعل طه حسين صاحب أكبر مدرسة تغريبية ظهرت في العصر الحديث والتي خلفت حشداً هائلاً من الباحثين الذين غرر بهم الرجل ـ وتلاميذه ـ ومن كان لهم إماماً .

   ومما لا شك أن المشكلة التي تحاصر الفكر الإسلامي تتمثل في وجود المستشرقين من الخارج والمستغربين من الداخل ، وحاول هؤلاء وأولئك تلويث منابع الفكر الإسلامي ومصادره عن طريق الدعوة إلى إحياء العصبيات والعرقيات ، فكتبوا عن الفرعونية والفارسية والإغريقية والفينيقية والسومرية ، ونفثوا سموهم من أجل إحياء تلك الدعوات التي تمثل دعماً كبيراً للحركات المضادة للتاريخ الإسلامي ، وتطرقوا إلى استبدال الحروف العربية باللاتينية كمحاولة للتقليد الأعمى للغرب في كل مظاهره بدعوى أن العروبة والإسلام يمثلان مظاهر التخلف والرجعية ، واعتبروا أن اللغة العربية ـ لاسيما الفصحى ـ لم تعد تصلح لغة الكتاب والآداب .

   إن المستشرق هو ابن البيئة التي عاش فيها وتربى على ثقافاتها وفكرها ، ولاشك أن هؤلاء تأثروا بكل التراكمات الثقافية التي عاشوها في أوربا عبر السنين والأزمان والتي لم يعرفوا من خلالها إلا الصورة المشوهة عن التاريخ الإسلامي ، فما من شك أن يتأثروا بتلك المعطيات والافتراءات ، وإلا فما هو تفسير الأغاليط التي وقع فيها المستشرقون حول الإسلام وتاريخ المسلمين ؟ وما تفسير الهفوات التي وقع فيها المعتدلون من المستشرقين قبل المتطرفين ؟ فما من تفسير لهذا الأمر سوى أنهم تأثروا ببيئاتهم الثقافية المتشبعة بروح العداء ضد الإسلام بغير تعقل ولا هوادة ، والتي انخرطوا فيها بطريق لا شعورية ، فهم في بلاد يجترون ليل نهار تلك الثقافات المعادية والمشوهة للإسلام .

   والاستشراق في حقيقة الأمر يقصد العناية بدراسة علوم وتراث وتاريخ وحضارات وآداب ولغات الشرق ، ولكن لم تنطلق تلك الأفواج من المستشرقين للعناية بهذه العلوم لمجرد الترف الفكري ولكنها كانت حملات علمية منظمة للوقوف على حقيقة الشرق وإمكانية دراسة مواطن الخلل والضعف ، لاسيما بعد أو وجد الغرب الأوربي أنه لا مناص من دراسة علوم الشرق التي كانت تمثل في العصور الوسطى أرقى علوم الدنيا بالنسبة لأوربا كلها ـ شرقها وغربها ـ وقد ظهر فكرة دراسة علوم الشرق ـ على قول ـ في بلاد الأندلس على يد طائفة من الرهبان الذين وجدوا في علوم الشرق ما يبهرهم ودعاهم إلى التزود من تلك العلوم .

 هذا فضلاً عن أن الحروب الصليبية التي دقت طبولها حوالي قرنين ونصف من الزمان وجعلت الغرب الأوربي في مواجهة صارمة مع الشرق الإسلامي ، وعلى الرغم من الآثار الضارة التي ألحقتها الحروب الصليبية بالشرق إلا أنها أتاحت الفرصة للقاء القهري بين الشرق والغرب والتفاعلات الثقافية والاحتكاك الديني والسياسي بين الإسلام والنصرانية ، الأمر الذي التي أعقب دخول كثير من هؤلاء في الإسلام .

   وهناك من درس الإسلام من المستشرقين لا ليتزود من علوم الإسلام والشرق وحسب ، بل ليوجد الطريقة التي يهدم بها الإسلام من داخله وليتزود بالمعلومات التي تمكنه من الوقوف على ثغرات من الممكن أن يهاجم بها ويشكك المسلمين في عقائدهم لاسيما وأن الإسلام قد أصبح سداً منيعاً في سبيل التبشير الديني بالمسيحية .

   وكان من أهداف الاستشراق التبشير بالمسيحية ، والتجسس على بلاد الشرق والإسلام ، وإثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات من أجل تمكين بلادهم ـ أوربا ـ من السيطرة على مقدرات بلاد الشرق الإسلامي سياسياً واقتصادياً وعقائدياً .

   ويوجد اعتراف ضمني لدى أوربا كلها أن الأسلوب العسكري الصليبي ضد الشرق الإسلامي لم يعد الخيار الأخير ، بل اعترفوا بفشلهم الذريع في هذا الأمر ، فخلقوا فكرة الاستشراق .