صدى العرب : الوجد والوجدان بين الإمام الشافعي والحمداني (طباعة)
الوجد والوجدان بين الإمام الشافعي والحمداني
آخر تحديث: السبت 15/06/2019 02:18 ص
أحمد المرشد أحمد المرشد

يحلو لي دائما أن ابتعد عن السياسة ووجع الرأس كما يطالبني الكثير من القراء الذين لا تستهويهم السياسة وليسوا من متابعي الأحداث لسأمهم لما يجري علي الساحتين العربية والعالمية من تطورات متلاحقة، ولذا أكتب اليوم عن الوجد عند الإمام الشافعي وأبو فراس الحمداني سواء لوطنه أم لحبيبته، فكلاهما وطن وإن كانت كلماته في قصيدته الرائعة "أراك عصية الدمع" وهي ملهمتنا اليوم تسري علي أرض المنبت والمحبوبة، وهو بذلك يزيد من حيرتنا فكل ما جاء بها كلمات توحي بالمعنيين، فأحيانا يغدر الوطن بأبنائه وإن كان هذا استثناء فهو الواقع أحيانا من قبل النساء 

أما عن الأمام الجليل الشافعي فالحب لم يغب عنه حيث ترك لنا الكثير، ومن أبياته:

فـدعـه ولا تـكـثــر عـلـيــه الـتـأسـفـا

إذا المـرء لا يـرعـــاك إلا تكـلـفـا

وفـي القلب صـبـر للحبيـب ولو جفـا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحة

ولا كـل مـن صـافـيـتـه لـك قـد صفـا

فـمــا كـل من تهـواه يهـواك قلبـه

فـلا خــيــر فـــي ودٍّ يــجــئ تـكـلُّـفـا

إذا لـم يـكن صفـو الـوداد طبيــعة

ويــلـقــاه مـن بـعــد الـمـودة بـالجـفـا

ولا خيـر في خـلٍّ يخــون خليــلـه


وللإمام قصة شهيرة عن الحب، ويحكي فيها عن شاب مات كمدا بسبب حبه، فبينما كان يسير الإمام في طريقه وجد حجرا مكتوب عليه بيت شعر يقول: يا معشر القوم بالله خبّروني إذا حلّ العشق بالفتى كيف يصنع.. فما كان من الإمام الشافعي إلا أن رد على كاتب البيت كاتبا على الحجر هو الآخر: يُداري هواه ويكتم سرّه ويخشع فى كلّ الأمور ويخضع. ولم يمر وقت طويل حتي عاد الإمام وهو سائر يوما ما الي نفس المكان والشجرة ليجد الشاب وقد أضاف: إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّه فليس له شيء سوى الموت ينفع.. لم ينقطع الإمام عن الشجرة فعاد إليها مجددا ليجد الشاب وقد أضاف: سمعنا وأطعنا ثمّ متنا فبلّغوا سلامي إلى من كان للوصل يمنع.. هنيئاً لأرباب النّعيم نعيمهم ولشقّ المسكين ما يتجرّع .

 

وعندما كتب الإمام عن الزهد قال:

هـي القنـاعةُ لا تـرضَى بهــا بـدلا..فيهــا النعيـمُ وفيهــا راحـةُ البـدنِ

انظـرْ لمـن ملَــك الدُّنيـا بأجمـعِـها..هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـن


وقد غاص الشافعي في النفس البشرية وما يصونها ليكون لنا عونا بكلمات رقيقة مثل:

صن النفس واحملها على ما يزينها تعش سالماً

والقول فيـك جميل ولا تولين الـناس إلا تجمـلا

نبا بك دهر أو جفاك خليل

وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غـد عسى نكبات الدهـر عنك تـزول

ولا خير فـي ود امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيـث تـميل

وما أكثـر الإخوان حيـن تعدهـم ولكنهم فـي النائبات قليل

إِنّي صَحِبتُ الناسَ ما لَهُم عَدَدُ وَكُنتُ أَحسَبُ أَنَّي قَد مَلَأتُ يَدي

لَمّا بَلَوتُ أَخِلاّئي وَجَدتُهُمُ كَالدَهرِ في الغَدرِ لَم يُبقوا عَلى أَحَدِ إِن غِبتُ عَنهُم

فَشَرُّ الناسِ يَشتُمُني وَإِن مَرِضتُ فَخَيرُ الناسِ لَم يَعُدِ

وَإِن رَأَوني بِخَيرٍ ساءَهُم فَرَحي وَإِن رَأَوني بِشَرٍّ سَرَّهُم نَكَدي

 

وإذا انتقلنا الي أبو فراس الحمداني، ذلك الفارس الهمام الذي سجنه ابن عمه ظلما ليناشده بقوله من محبسه في الأسر: أياليت ما بيني وبينك عامر..وما بيني وبين الناس خراب. وقد ترك لنا أروع قصيدة وقد تغنت بأبياتها المعبرة أم كلثوم وهي "أراك عصية الدمع". والجميل في القصيدة التي تعد علامة في الشعر العربي في العصر العباسي ومن أشهر شعرائه المتنبي الذي لم يستطع منافسته ونزاله سوي أبو فراس الحمداني بكلماته الخالدة في "أراك عصي الدمع" وهو يتحدث فيها عن نفسه وأسره وحبه حتي وإن كان القصد منها هو مناشدة ابن عمه سيف الدولة الإسراع علي تخليصه من الأسر وعدم الركون الي وشاة القصر الكثر الذين يحيلون بين أبناء العمومة، فخرجت الكلمات بأحاسيس صادقة من الشاعر الفارس الذي وضعوه في منزلة واحدة مع شاعر العرب الأشهر إمرؤ القيس. لم يكمل أبو فراس عامه الـ37 حتي فارق الحياة ليترك للمكتبة الشعرية العربية أندر قصائدها وأروعها، فهو الفارس الأمير المغوار الذي سجل في قصائده انفعالات الروح فى شتى حالاتها لتشهد على نُبل وابداع قلما  يجود به الزمان. 

" أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ .. أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟".. بدأ شاعر الدولة العباسية وصف تجربته العاطفية  الجياشة بتساؤل ليسرد حالة وجدانية فريدة في صدقها خاصة وصفه لحظة وقوعه في الأسر ليعاني مرارة السجن أولا وهذا أمر طبيعي، ثم والابتعاد عن دياره وأهله . وتتوالي الأبيات لتصف حاله ليبوح بما لا يستطيع البوح به.


أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ .. أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ .. ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى.. وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ

تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي .. إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ

 

وأيا كان الهدف والمغزي من كلمات القصيدة، وهل هي للوطن البعيد أم الحبيبة الساكنة في قلب أبو فراس ولا تغادر خياله، فشاعرنا الكبير يصف لنا حالة حبه ولوعته  حتي وإن كان يحدثنا عن غدر حبيبته، وهنا يحدث اللبس في الشرح ونعود الي نفس التساؤل:هل هي للوطن وطلبا لحريته خاصة مع تأخر سيف الدولة في فدائه كما تمني منه،  أم الحبيبة؟ .. ولا يستطيع أحد ترجيح كفة علي أخري، رغم أن أم كلثوم بغنائها القصيدة حولتها فعلا الي غاية في الحب واللوع وكذلك الفيلم السينمائي الذي لم يخرج عن حالة عشق وهوي وحب بين فارس مغوار يقع في الأسر وبين الإنسانة التي هواها قلبه وتعلق بها فؤاده وغاب عنها بفعل الأسر ليعيش معها حالة من الوجد والهيام في السجن حتي يخرج ويلتقيها.

ويأبي الفارس أن يستمر في حالة الوجد أمام جارته بنت الحي وشيمتها الغدر، فيعود الى كونه فارسا وابن من أبناء الدولة الحمدانية ليفتخر بنفسه وأًصله و قومه الأعز بين أقوام الدينا وأعلاهم شأنا وأحسن قوم يعيش علي الأرض :

ولوْ سدَّ غيري ، ما سددتُ ، اكتفوا بهِ..وما كانَ يغلو التبرُ ، لو نفقَ الصفرُ

وَنَحْنُ أُنَاسٌ، لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا..لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ، أو القَبرُ

تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا..ومنْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ

 
ومع ذلك لم ينس أبو فراس أن يذَكر قومه بشجاعته وحاجتهم إليه وقت الشدائد فلا غيره يسد مكانه عند المحن قائلا:

سَيَذْكُرُني قَوْمي إذا جَدّ جدّهُمْ.." وفي الليلة ِ الظلماءِ ، يفتقدُ البدرُ "

فإنْ عِشْتُ فَالطّعْنُ الذي يَعْرِفُونَه..وتلكَ القنا ، والبيضُ والضمرُ الشقرُ

وَإنْ مُتّ فالإنْسَانُ لا بُدّ مَيّتٌ..وَإنْ طَالَتِ الأيّامُ، وَانْفَسَحَ العمرُ

ولوْ سدَّ غيري ، ما سددتُ ، اكتفوا بهِ..وما كانَ يغلو التبرُ ، لو نفقَ الصفرُ

أدرك تماما أن مقال اليوم سيستهوي من يعانون من لوعة الحب وشقائه، وسيسترجع البعض ذكريات بعضها جميلة وأخري أليمة، فهكذا هو الوجد والغرام، ومثلما نصحنا الإمام الشافعي بألا ندع بالا لمن لم يرع الود وحب القلب وألا نتأسف علي بعاده، سار أبو فراس الحمداني علي نفس النهج وتحدث عن غدر من أحببناه ومن حاربنا الأهل في هواه فماذا كانت النتيجة سوي الغدر..وهو ما أكده الإمام الشافعي بقوله : ولا كـل مـن صـافـيـتـه لـك قـد صفـا..فـمــا كـل من تهـواه يهـواك قلبـه"..فلا خير في خل يخون خليله ويلقاه من بعد المودة بالجفا، وما لم يكن صفو الوداد طبيعة في البشر فهجرهم ليس حرام.

وختاما.. هل توصل أبو فراس الحمداني لإجابة علي تساؤله " ..أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟"؟ الأمر لكم..

 

أحمد المرشد

 كاتب ومحلل سياسي بحريني