صدى العرب : بالحب والتسامح نروي ظمأ القلوب (طباعة)
بالحب والتسامح نروي ظمأ القلوب
آخر تحديث: الجمعة 05/04/2019 06:52 م
أحمد المرشد أحمد المرشد


 

مللنا من الكتابة في السياسة وتوجعت رؤوسنا وأصبح العديد من القراء يطالبون بشئ من الراحة أو الاستراحة بما يدخل البهجة في قلوبهم، ولهذا  قررت أن ابتعد قليلا عن السياسة ووجع الرأس والهموم العربية التي تشغل البال وترهق القلوب بعدما أرهقت عقولنا.. وسأكتب اليوم للتنفيس عن الأرواح والعقول المرهقة لربما نستفيد منها، وطبيعي أن تكون المشاعر والأحاسيس هي النقيض الحلو في حياتنا للسياسة ومتاعبها، فالإنسان كتلة لا تتجزأ من المشاعر التي يتبادلها مع من حوله، فإن وجد ردة فعل إيجابي لمشاعره وأحاسيسه  قويت العلاقات وتميزت، وإن لم يلق الإنسان هذا الرد الإيجابي فسوف يصاب بانتكاسة، فأي إنسان لن يستطيع العطاء بدون حب ولن يستطيع أن يحب بدون التسامح.. وهذا يدفعني لسرد قصتين عن الحب والتسامح.

 

 الأولي بين زوجين فقيرين ولكن المولي عز وجل زرع في قلبيهما الود والرحمة والألفة..يقول تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}  (الرّوم 21).. فقد عاش رجل فقير مع زوجته التي طلبت منه ذات مساء شراء مشط لشعرها الطويل حتي يبقي ناعما ولتزيد من رونقه وبريقه وإشراقه في أعين زوجها الذي ‎ﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ وعيناه يملؤها الحزن الشديد "فالعين بصيرة والأيد قصيرة" كما يقولون، وهو لا يملك قوت يومه البسيط. فالزوجة رأت في عينيه بسريرتها الطيبة هذه النظرة الحزينة وانكساره أمامها حتي أنه حاول إبلاغها مدي احتياجه للمال حتي لأقل القليل منه ليشتري به جلدا لساعته.

 

‎ﻟﻢ ﺗﺠﺎﺩﻟﻪ ﺯﻭﺟﺘﻪ  ﻭﺘبسمت ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ولكم كان موقفها هذا مريحا له وأسره في نفسه، فما كاد يمر الليل حتي انتهي عمله في اليوم التالي ليذهب الي السوق مسرعا ليبيع ساعته بثمن قليل ليشتري لها المشط الذي طلبته منه بالأمس، وعاد مسرورا الي منزله ليبشر زوجته ويفاجئها بما اشتراه ردا علي مشاعرها الطيبة وابتسامتها الجميلة أمس فهي لم تحزن من ضيق ذات اليد بل تقبلت الأمر بصدر رحب وسكينة وقناعة ورضا بالمكتوب.

 

وما أن فاجأ الزوج زوجته بصنيعه حتي ردت هي بمفاجأة أخري أذهلته، فكشفت عن  شعرها القصير وهي المعروفة عنها طول الشعر ونعومته وانسيابه مما يمنحها جمالا فوق جمالها، لتمد يدها له وبها جلد جديد لساعته في نفس اللحظة التي مد هو يده لها بالمشط.. ‎ﻓﻨﻈﺮﺍ اﻟﻰ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ البعض وتلاقت ﻋﻴﻨﺎﻫﻤﺎ وهي ﺗﺪﻣﻌﺎﻥ.. ﻟﻴﺲ ﻷﻥ ﻣﺎ ﻓﻌﻼﻩ ﺫﻫﺐ ﺳﺪﻯ، بل  ﻷﻧﻬﻤﺎ ﺃﺣﺒﺎ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﻘﺪﺭ وأراد كلاهما تحقيق رغبة الآخر. إنها صدق المشاعر ‎والأحاسيس التي لا تنضب أبدا طالما رويناها بالحب لتعود علينا بالسعادة والهناء والسرور، فعندما نحب نحصد حبا، وعلينا إسعاد من نحب وكل من حولنا. وكان الحب بين هذين الزوجين صادقا وإحساسا جميلا فكان رد الفعل أجمل، فهما حولا دنيتهما الي جنة في الأرض. فالزوج المحب لم ينتظر صنيع زوجته ولم تنتظر هي الأخري صنيع زوجها. فنية المؤمن أبلغ من عمله، وهذه حكمة بليغة في حياتنا، فإذا احببنا الخير لغيرنا وجارنا وجدناه في دارنا، فالإنسان الذي يزرع خيرا  يحصد نتائج صنيعه. ومثلما فعل الزوج والزوجة.

 

وبمناسبة الحب، حكي لنا صديق في جلسة سمر نادرة من نوادره مع زوجته وكان حديثه عن المشاعر والأحاسيس فقال :" أرسلت لزوجتي رسالة حب جميلة وكنت متشوقا لأن ترد عليِ بكلمة إعجاب أو صورة تعكس إحساسها كما هو إحساسي". واستطرد قائلا:" غير أنني فوجئت بأن زوجتي لم ترد علي وأحسست بغصة في نفسي، لأن الحياة ما هي سوي مشاعر وإحاسيس حتي وإن تقدم بنا العمر، فالمشاعر حياة أو علي الأقل تمنح الحياة بهجة وسرور، وعندما تموت المشاعر والحب بين قلبين تغيب  الحياة الحقيقية عنهما". وهنا أكشف سر سردي قصة الرجل الفقير وزوجته وتضحيته بساعته وهي بشعرها من أجل إرضاء كل منهما للآخر في مشاعر حب فياضة وود وحنان تقيم بنيانا صحيحا، ولعل زوجة صديقنا تنتبه الي ما فعله صمتها في زوجها.

 

وقبل الانتقال الي قصتي الأخري، سمعت بالصدفة رجلا في إحدي البرامج الحوارية في حلقة عن الحب بين الزوجين، فحكي إنه ذات ليلة سأل زوجته وهما علي الفراش:" هل لا تزالين تحبينني؟".. فما كان منها سوي رد أضحك المذيعين وأضحكنا وربما كل من شاهد هذه الحلقة،  فقالت الزوجة:" نام يارجل فنحن كبرنا علي هذا الكلام".. فمثل هذه الزوجة أخمدت مشاعر الحب في قلب زوجها ولم ترو عطشه للحنان وسماع كلمة طيبة ربما كانت ستعينه علي مشاكل الحياة الكثيرة التي آثر الزوج كتمانها في نفسه وعدم إزعاج زوجته بما يمر به. أقول ربما، فليس كل ما نعانيه في حياتنا وأعمالنا نحكيه، ولكني اعتقد أن مثل هذا الزوج كان في حاجة ماسة لكلمة حب أو لمسة حنان تعينه علي أوجاعه.

 

ومن مشاعر الحب وسحر الابتسامة الي التسامح، هذا الإحساس الجميل الذي ينشر الحب إن انتشر بين البشر، فالتسامح ينهي الأوجاع ويغسل القلوب ويطهر الأرواح، وتقول القصة التي يرويها  زعيم جنوب إفريقيا الراحل نيلسون مانديلا، إنه طلب ذات مساء من طاقم حمايته الترجل قليلا ثم أعقبه بطلب آخر وأن يتناول العشاء بأحد المطاعم برفقة رجال الطاقم الأمني، وبينما هم يتناولون الطعام لاحظ مانديلا  في الطاولة التي أمامه شخصا وقد استرجعته ذاكرته بمجرد رؤيته، فطلب من أحد جنوده أن يستدعيه ليأتي الي طاولتهم  ويتناول الطعام معهم. فذهب الجندي الي الرجل كما طلب منه مانديلا ودعاه للجلوس علي طاولة الزعيم الذي دعاه الي الجلوس بجواره مباشرة.. لاحظ الجميع أن أيدي الرجل ترتجف بمجرد أن جلس بجوار مانديلا ولم يتوقف ارتجافه هذا حتي وهو يتناول طعامه، ولم يعرفوا سببل لذلك. فسألهم مانديلا بمجرد أن أنهي الرجل طعامه وغادر المطعم لحال سبيله وفرغوا هم  جميعا من وجبة العشاء :"هل أدركتكم سبب ارتجاف أيدي الرجل؟" فرد أحد الجنود :"ربما يعاني الرجل مرضا سبب له هذه الحالة العصبية أو أن الارتجاف نتيجة شعوره ببرودة الجو".

 

انتظر مانديلا بعض الدقائق ولكنه لم يجد إجابة شافية من جنوده علي سؤاله، فقال لهم :"سأكشف لكم حقيقة ارتجاف أيدي هذا الرجل الغريب عنكم،  فهو كان حارسا بالسجن الذي مكثت فيه نحو 25 عاما، و في أغلب الأحيان وبعد كل تعذيب أتعرض له منه كنت أصرخ من شدة الألم وأطلب قليلا من الماء..فيكون رده بالتبول علي رأسي، ولهذا فهو بمجرد أن لمحته بالطاولة التي بجواري وجدته يرتجف خوفا من انتقامي لأنه توقع أنني سأبادله تعذيبا بتعذيب أو أمر الحراس بسجنه علي الأقل وأنا رئيس الدولة ولكن هذه ليست من شيمي أو أخلاقي.

 

لقد اتسم تصرف نيلسون مانديلا وهو الزعيم بالتسامح وهذا شعور العظماء، فالتسامح أو "العفو عند المقدرة" من أعظم مبادئ الأخلاق الكريمة، والعفو من شيم الكرام، يقول تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ويقول سبحانه: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}..وكان تصرف مانديلا عظيما مثلما هو عظيم، فأعفي وسامح ولم تسيطر عليه عقلية الثأر، فهي لا تبني أمة في حين أن عقلية التسامح تشيد حضارات.

 

وأيا كان المشاعر والأحاسيس فهي كالوردة تذبل ويضيع عطرها إن لم نرويها بالحب والعطف والحنان والتسامح، وكذلك تموت  القلوب  وتتيبس إن لم نسقيها حبا وطيبة.

 

أحمد المرشد

كاتب ومحلل سياسي بحريني