صدى العرب : من الأقصر الي أسوان.. مع "الخان" (طباعة)
من الأقصر الي أسوان.. مع "الخان"
آخر تحديث: الجمعة 01/03/2019 06:40 م
أحمد المرشد أحمد المرشد


 

في رحلة تحكي ما صنعه الأجداد في مصر، زادها روعة وألفة صديق عمري المبدع عبد الله الخان صاحب أغلي عدسة كاميرا في التاريخ أو هكذا أري فيه المصور الفنان الذي يتعامل مع الأمكنة والأزمنة بطريقته الخاصة، ففي لحظة أو أقل من ثانية يكون قد حقق سردا مصورا ليخلد به واقعة أو جملة من الوقائع والأحداث ليدشن وثيقة تاريخية تعتمد عليها الأجيال الجديدة..إنه الفنان الذي رافقته في رحلتي الأخيرة الي جذور أرض الفراعنة  حيث الأقصر الخالدة بآثارها ونحوتها ومعابدها الشاخصة حتي يومنا هذا لتنقل لنا تاريخ مصر المجيد التي ترفرف في ماضي عريق وتعيش حاضرا زاهرا بالاستقرار والمحبة والوئام والأمن الذي يعكسه هذا العدد الضخم من السياح الأجانب في كل من الأقصر وأسوان في أقصي جنوب مصر، ليسجل هؤلاء السياح بأعدادهم الوفيرة عنوانا كبيرا هو "أمن مصر واستقرارها"، فالسائح لا يذهب سوي للأماكن الآمنة العامرة بالاستقرار والهدوء، وهو ما تشهده الأقصر وأٍسوان في الوقت الراهن حيث استعادت مصر مكانتها المعهودة من السياحة العالمية..

 

 

قضيت في مصر أياما جميلة علي مدي الأسبوع الماضي في مدينتي الأقصر وأسوان بصحبة صديقي عبد الله الخان،وصديقه الفنا ن حسين المحروس الذي يعد المواد النصية لمؤلفاته المصورة  الاخ العزيز عبدالله حلم كثيرا بزيارة المدينتين ليشاهد آثار مصر العريقة التي تحكي لنا تاريخا عظيما بناه الفراعنة، فالمصريون حقا هم بناة التاريخ والحضارة، ليس حضارة فرعونية فقط وإنما حضارة إنسانية عندما أبدع المصري القديم في تشييد كل هذه التماثيل والنحوت التي تعيش حتي يومنا هذا شاهدة علي أصالة وعراقة مصر والأقصر وأسوان. لقد حلم عبد الله الخان بزيارة السد العالي وقد تحقق حلمه الأيام الماضية ليضيف الي ابداعاته مجموعة جديدة من صور السد العالي الذي يشخص عظمة الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر عندما فكر في تشييد هذا السد في بدايات ثورة يوليو المجيدة، لتنجو مصر بفضل حسن تفكيره من الكثير من المخاطر المهلكة حيث فيضانات النيل التي قضت علي مدن كثيرة علي طول امتداده من أوسط إفريقيا.

 

لكم كنت سعيدا بما تحقق للخان عندما سرنا سويا في ربوع الأقصر، تلك المدينة التي تضم نحو خمس آثار العالم، فهي عبارة عن متحف مفتوح ولا تضاهيها مدينة أخري في العالم، فالرحلة بصحبة صديق غال خاصة لو كان مصورا ومبدعا تعد إضافة لأي إنسان، فالخان عاش أياما رائعة مع صديقته – الكاميرا – التي لا تفارقه في أي مكان يزوره فهي تظل معه كظله، يحملها علي كتفه، ولكم حمل الكثير من ماركات الكاميرات الشهيرة، ولكن المهم في أنامل الفنان الذي يوجه العدسة ويضبط الظلال والزوايا ليلتقط أحسن الصور. لقد عرفت الخان منذ بداية الثمانينيات عندما كنت مسؤولا عن قسم الأخبار والتصوير بوزارة الإعلام، وقد استفدت من خبراته كمصور حيث يبدع في التقاط الصور والمشاهد الجميلة.. فعبد الله الخان الفنان عاصر وصور علي مدي سني عمره عشرات بل المئات  من الأشخاص والملوك  والأمراء والرؤساء والمشاهير والفنانين. واتذكر رحلتي معه التي لن أنساها ما حييت، عندما ذهبنا الي الكويت بعد تحريرها عام 1991 ومكثنا هناك ثلاثة أيام ونقلنا ما لحق بهذه الدولة الشقيقة من خراب ودمار.. في هذه الرحلة استفدت من خبراته الطويلة كمصور ومن أحاديثه الشيقة، فهو ليس مؤرخا مصورا فقط و إنما هو فنان عاصر الكثير من الأحداث في البحرين والخليج والوطن العربي.. بدأ التصوير مع والده منذ أن كان عمره عشر سنوات إذ عمل في التحميض والتصوير معا، وكما بدأ حرفته ومهنته طفلا  فهو رقيق كالطفل يخلص لمهنته التي يعشقها، ومن خلال معشوقته – الكاميرا – ترجم إخلاصه للبحرين بإقامة معارض متخصصة ليبرز اسم بلاده عاليا خفاقا..فهو ذاكرة متنقلة للبحرين، ذاكرة مصورة لما يملكه من مخزون ضخم من الذكريات والصور تؤرخ لبلادنا العظيمة، فكاميرته أو لنقل –ساحرته وهو المسحور بها دوما- لا تغادر كتفه وتلازمه في  كل مكان تطأه قدماه.

 

أعود الي الأقصر، تلك الرحلة الشيقة التي شاهدت فيها بعيني وبعدسة الخان عبقرية فريدة من نوعها، عبقرية شهدت لها كل عوالم الكون وليس عالمنا الحاضر فقط، عبقرية قدماء المصريين في بناء المعابد وصناعة التاريخ بجوار نهر النيل الخالد الذي حمل فوق مياهه الأحجار والمعدات اللازمة لبناء تلك الحضارة قبل آلاف السنين، فتعانعقت المعابد مع النيل، الأولي تغذي العين والروح، والنيل يروي أرض مصر الطاهرة وشعبها الطيب.

 

لقد زرنا بداية التاريخ لنري حضارة الفراعنة شاهدة علي هذا التاريخ، تلك الحضارة التي علمت الإنسانية فنون النحت والعمارة والبناء، ومنها نقل العالم الطب والعلوم والتحنيط، ولم تتوقف أنامل الخان لحظة عن سرد ما يري بعدستة لتكون هي الأخري شاهدة علي حضارة المصريين ليتوغل فيها ويقلب ما بين صفحاتها ويداعب آثارها ومعابدها ونيلها.

 

في مصر التي اعشقها  قضينا أياما رائعة علي ضفاف نيلها الخالد، امتدادا من الأقصر وحتي أسوان، ليخلد صديقي عبد الله ذكريات تلك الرحلة بعدسته التي لا تري إلا كل ما هو جميل، وحتي وإن لم يكن جميلا  فتجمله عدسة المبدع صاحب الأنامل السحرية في التقاط الصور، فعينه غير أعين بقية البشر وليس كل من حمل كاميرا مصورا، فعينه مختلفة عن الآخرين ينقل السير الشخصية ليس بالأحرف ولكن صورا، فعينه غنية بالذكريات تبقي علي الصورة كتاريخ وسيرة ووثيقة، المكان عنده وثيقة خالدة يغوص فيه بعمق حتي يخرج بصورة تسرد الواقع الذي سرعان ما يتحول الي تاريخ. ولهذا تراه عاشقا للمكان والزمان معا فهما متلازمان لا يفترقان مثل كاميرته التي لا تفارقه، ويتعامل معها كخبير الجواهر الذي يقلبها يمنة ويسارا ولا يجرحها بل يجيد تثمينها، فالكاميرا لديه ليس مجرد آلة صماء يلتقط بها الصور، وإنما هي عينه وعقله التي يري بها ويخزن بها الذكريات لتتحول مع مرور الوقت الي كونها مثل نبضه يستخدمها كلما نبض قلبه.. وما زلنا في الأقصر الخالدة كما سماها العرب نظرا لقصورها ومعابدها، أو "طيبة" و"الشمس"و"النور" و"الصولجان" كما أطلق عليها الأقدمون، إنها أرض العراقة والأصالة و القديمة ذات الطابع الفريد الذي يميزها عن بقية مدن العالم، فهي لا تزال أرضا تاريخية اذ  لا يوجد بها قدم بدون أثر فرعوني يدل علي ما بناها قديما لينطق هذا الأثر بعظمة القدماء المصريين قبل الميلاد بآلاف السنين.

 


تعددت جولاتنا في الأقصر التي تعد أهم مشتى سياحي في مصر بجانب مدن وسواحل البحر الأحمر، ولكنها تتميز بأنها قبلة العاشقين للحضارة الفرعونية بمعبدها الشهيرومجمع معبد الكرنك، معبد الدير البحري أو معبد حتشبسوت، تمثالا ممنون، معبد دير المدينة، مدينة هابو، معبد الرمسيوم، معبد سيتي الأول بالقرنة، مقابر وادي الملوك، وعلي رأسهم الملك توت عنخ امون، سيتي الاول، رمسيس الثالث، رمسيس السادس وحور محب، ولم يفتنا زيارة  مقابر وادي الملكات بغربي الأقصر لتسجل عدسة الخان مابها من مقابر 

 

لقد جذبتنا طيبة عاصمة مصر القديمة، فهي مركز الحضارة المصرية القديمة وتضم أكثر من 800  منطقة ومزار أثري وتضم  أروع ما ورثته مصر من تراث إنساني، إذ تمثل تاريخ صنعه القدماء وزاد من بهائه أحفادهم اليوم..وتتواصل الرحلة الي أسوان الساحرة، التي يرسم فيها النيل لوحة جميلة يصعب علي أي رسام نقش معالمها، فالنخيل الأخضر مع المزارع المترامية الأطراف وصفحة المياه الهادئة التي تعكس أشعة الشمس تمنح لزائر المدينة دفئا علي دفئها، لننتقل بين معابد فيلة حتي نصل الي السد العالي الذي ذكرته في البداية حيث انبهر به الفنان عبد الله الخان وهو الذي حلم برؤيته وتصويره وقد تحقق حلمه كما أسلفت..ولم يكن ليل أسوان بأقل من نهارها بهجة فالحياة بالمدينة متواصلة تكاد لا تنام والحركة فيها دائمة يميزها أهلها الطيبون ببشرتهم السمراء النقية، فهم يعشقون زوارهم ويعتبرونهم ضيوفا نزلوا بخيمتهم، يستقبلون زوارهم بوجه بشوش وروح طيبة.

 

وإذا كانت مصر هبة النيل،  فأسوان هبة مصر  بموقعها المتميز وتاريخها العريق، وقلب الجنوب النابض بالحياة والوصال، فأهل أسوان الذين جسدتهم عدسة الخان هم عنوان البساطة والود وحسن الضيافة مثل بقية أهل مصر الطيبين، أوكما يقولون عن أنفسهم " أهل أم الدنيا"  التي يختزن كل شبر علي أرضها حكاية أو قصة أو أسطورة تاريخية على مر العصور..ولم لا؟.. فالإنسانية ولدت هنا والحضارة تأسست هنا من جنوب مصر ليترك المصريين القدماء  آثارهم وبصماتهم ليصيغوا بها الحضارة الانسانية في أروع فصولها، فكانت مصر دوما مصدرا للعلوم، ولتجد الاديان السماوية في رحابها واحة آمنة وحضنا دافئا من عقيدة التوحيد حتى استقرت جذورها وعمت العالم بنور الايمان.

 

رحلتي كانت الي قلب مصر لأشاهد الحضارة وأقرأ التاريخ، ومعي عدسة الفنان عبد الله الخان الذي قلب بين القصور والمعابد والآثار ليجمع صور ليضيفها الي موسوعته الضخمة، فعدسته تنقل لنا أحداث الماضي بموضوعية ويربط ما انقضي وفات بالحاضر لنستلهم منه المستقبل، هكذا هي عدسته التي تختزن ملايين الصور علي مدي عمره المهني منذ أن سحرته الكاميرا طفلا ليهوي التصوير مثل أبيه..ونحن في انتظار مولوده الجديد الذي سيضم مجموعة صوره الرائعة في الأقصر وأسوان ليضم إليها ما التقطته عدسته من صور لمناطق متعددة من مصر  منها الحسين وخان الخليلي  والإسكندرية والأسواق الشعبية والقلاع والحصون وبرج القاهرة الشهير الذي شيده عبد الناصر ليكون شاهدا علي تحدي الغرب الذي حاول تقييده وحجب تمويل بناء السد  العالي.