صدى العرب : هو هــم بالليل ومذلة في النهار (طباعة)
هو هــم بالليل ومذلة في النهار
آخر تحديث: الأربعاء 20/02/2019 02:31 ص
السفير: خليل الذوادي السفير: خليل الذوادي
يُقال عن الدين: إنه «هم بالليل ومذلة في النهار»، متطلبات الحياة جعلتنا نسمي الدين بمسميات متعددة، فهو قرض، وهو سلفة وهو شراء وبيع إلى أجل، ساهمت البنوك والمصارف في تعودينا على الدين بل أن مداخيلهم البنكية المركبة تفوق قيمة الدين بكثير.
كان الناس في بلادي يشترون من محلات بيع المواد الغذائية بالسلف أو ما يسمى بالإرجاء دون طبعاً فوائد تذكر، فالبائع يتحلى بالصبر والمشتري يترقب أن تنفرج ظروفه فيدفع ما تيسر له وإن كان يتمنى أن لا يكون لأحد عليه دين، لأنه يشعر في ذاته وجوانحه أن ذلك مؤلم له ويفكر ليل نهار في أن لا يكون عليه أي طلب، لكنهم رحمهم الله كانوا يتأسون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة».
كان السلف في الشراء عادة ألفوها وهي على كل حال كانت ضئيلة، لكن البائع كان يشعر بأن ذلك الرابط يجعل من المشترين «العملاء» أو «الزبائن» في وقتنا مرتبطين بمحله فكان يألف ذلك بل يشعر أن من واجبه أن يسهل على الناس حياتهم، وهم بطبيعة الحال كانوا لا ينكرون عليه حقه بل إن البائع أعتاد أن تشتري الزوجة أو الأولاد منه حاجياتهم ويتم تسجيله على ولي أمرهم، شاهدت ذلك وعشت معه في مدن وقرى البحرين كلها، بل إن الأمر في شرعنا يتطلب من أهل من اختاره الله إلى جواره قبل تقسيم التركة على الورثة أن يتم قضاء الدين عنه. فكان شعورهم بالمسؤولية تجاه حقوق الآخرين كبيراً...
وعندما تقدمت بنا السنون وتغيرت الأحوال وجدنا على مدخل المحلات عبارة «منعاً للإحراج الدين ممنوع»، فكانت صادمة لمن اعتاد أن لا يجد هذه العبارة التي نقلت حالنا من حال إلى حال، وجعلتنا نأسف على الأيام الخوالي.
لم يكن الأقدمون ساعين إلى الدين من غير أسباب فقد شعروا بثقله عليهم ولكن ظروف المعيشة وقتها حتمت عليهم هذا السلوك، وقصص أهل الغوص مع نواخذة السفن، والدين الذي يتحمله الغاصة والسيوب كان متبعاً لكي يربط النوخذة البحارة والغاصة معه وكان ما يسمى عندهم «التسقام» و«السلف» عرفاً اعتادوا عليه بحثاً عن لؤلؤ المحار وإقامة أود أسرهم الذين يتركونهم طوال موسم الغوص.
روي أنه في يوم من الأيام كان شخصاً من وجهاء القوم المعروف عندهم بالوجاهة بيعاً وشراء وكان ميسور الحال، وكعادة التجار وقتها يتبادلون المنافع فيما بينهم ويشترون بالسلف وعندما يوفقهم الله يسددون كل ما عليهم من ديون، فالتجارة في عرفهم شطارة لكنها أيضاً أخلاق وقيم ومبادئ رفيعة وسامية.
فصادف أن هذا الوجيه تعرض إلى ضائقة مالية نتيجة كساد أصاب بضاعته وهي أمور تحدث حتى في زماننا هذا فصبر عليه الدائنون كثيراً، وظنوا، «وإن بعض الظن اثم» أنه يتهرب من سداد الدين، فعزم الدائنون على الذهاب سوياً إليه ليأخذوا حقهم ويسترجعوا دينهم. ولما علم بتوجههم إليه على السفينة الخشبية إلى البلد الذي يعيش فيه أمر أتباعه وخلصائه بأن يفرشوا الأرض سجاداً وأبسطة من بيته إلى «البندر» الذي سترسي فيه سفينة الدائنين، كما أمر أهل بيته بأن يعدوا لهم وليمة معتبرة عشاء لضيوفه «الدائنين». فلما نزل الدائنون من سفينتهم وجدوا أنفسهم يمشون محتفي بهم ودخلوا البيت مساء وإذا الوليمة أمامهم، وعندما أكلوا وتبادلوا الأحاديث مع هذا الوجيه في أمور الدنيا لم يجرؤ أحد منهم أن يفاتحه بالدين المستحق عليه، وكل واحد منهم يلقي التبعة على الآخر، لكنهم كانوا جميعاً على قناعة تامة بأن كل هذا الكرم والحفاوة ليس من شيمهم أن يفاتحوا مضيفهم بما يسمى عندهم «زهايد دنيا» وشكروا الرجل وقفلوا راجعين مكرمين دون أن يتطرقوا إلى الدين وشكروه على الحفاوة والتكريم، فالرجل حافظ على كرامته ومكانته بما يملك من فطنة وذكاء ودهاء محمود، وعندما أفاء الله عليه وانتعشت تجارته سلم الدائنين مستحقاتهم فلا هو أنكر حقهم، ولا هم أحرجوه وانتقصوا من مكانته، وظلت العلاقة بينهم تسودها المودة والمحبة والثقة المتبادلة وهي علامات التجارة الناجحة بين بني البشر.
إننا في حياتنا قد نتعرض لظروف ضائقة اليد، لكننا دوماً بحاجة إلى من يأخذ بيدنا دون منة أو تكبر أو استعلاء. وسنظل بحاجة إلى حفظ مكانة وكرامة بعضنا بعضاً.

وعلى الخير والمحبة نلتقي