صدى العرب : اللص الشّاطر (طباعة)
اللص الشّاطر
آخر تحديث: الأحد 06/01/2019 06:49 م
د. بروين حبيب د. بروين حبيب

نحتاج دائما إلى لحظة فارقة نسجّل فيها وقفة مع الذات، لحظةحادّة و دقيقة تشطر الزّمن إلى نصفين، و تحدّد الحاضر بشكل لا شكوك فيه، بحيث يصبح الماضي ماضٍ فعلا، ننفصل عنه تماما،  لنعيش اللحظة، و يصبح المستقبل مستقبلا فعلا، نخطط له بخطى ثابتة و رؤية مكتملة الوضوح.

فمشكلتنا مع الماضي الممتدِّ فينا حدّ العبث بحاضرنا، تفاقمت كثيرا حتى تعذّر علينا أن نعيش الحاضر، و أعتقد أنّ الأزمة العربية و الإسلامية عموما، تكمن هنا، في هذا التقسيم الزمني الذي خرج عن إطار الزمن الحقيقي، كون الوقفات الزمنية أُلغيت تماما من رزناماتنا، فأصبحت الوقفة الدينية المتكررة هي كل ما يميز حياتنا، مع أن المواقيت جزء مهم منها، خاصّة في تقسيم الصلوات خلال اليوم الواحد.

نذهب في مسارنا الحياتي اليومي، إلى الإرتباط بالخالق بخمس أوقات خلال فترة اليقظة، بعدها ينام الزمن، و كأنّه جزء غير محسوب من وجودنا، و لا شكّ أنّ ما حدث في أزمنة مضت، عشنا فيها تحت أنظمة ألغت مفهوم الزمن و حوّلته إلى مُكَوّن ديني محض، بين شهر الصيام، و الأشهر الحرام، و شهر الحج، و غيرها من مناسبات دينية، لا ثبات فصلي لها، بحيث لا الرّبيع ربيع، و لا الشتاء شتاء،  لا الخريف خريف، و لا الصيف صيف...حتى رحلة الصيف و الشتاء التي كانت تنظم سفر القوافل و زيارة البقاع المقدسة، لم تعد تطابق التقويم القمري القديم. فخضع العالم لتقويم أكثر دقة هو التقويم الميلادي. 

خلط المواعيد، و جعل حركة الزمن مرتبطة بعقارب سياسية قديمة، هو بالضبط ما أدخلنا في متاهة لم نخرج منها إلى اليوم. لكننا دون أن ندرك ذلك نعيش حسب توقيتين، يتقاطعان في مناسبات معينة، و يختلفان في كثير منها.

يحضر الماضي في بصمتنا الأدبية، و قليلا ما يحضر الحاضر، و نادرا جدا ما يحضر المستقبل. فعل     " كان" هو الفعل المسيطر على لغة السّرد عندنا، و هذا ليس ذنب الكاتب، بقدر ما هو ذنب مجتمع بأكمله، يعيش في الماضي حتى في مدوّناته. 

نكتب الماضي لأننا ربما لا نستوعب الحاضر جيدا، نحتاج لمسافة زمنية تنضج فيها الأفكار في أدمغتنا قبل أن نعيد صياغتها، و هذا رأي أرى فيه جانبا مشرقا لو أننا لا نتمسك بتلابيب الماضي و نبقى عالقين فيه.

عام ال 2018 مضى في غير سبيله، و قد إحتفل العالم لا بنهايته بل بقدوم الضيف الزمني الجديد الذي سيحوك أحداثا جديدة. 

في الرّكن المظلم من العالم مضت تلك اللحظة مثل سابقاتها، حيث لا ترى الكئانات لا أضواء و لا ظلال، لا شمس و لا قمر، لا ساعات و لا دقائق، و يستحيل أن تفكّر في آلة الزمن التي غيرت إيقاع الأمم منذ ظهرت قبل أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، أو لنقل لا قبله و لا بعده...

حتى أنّ فكرة السفر عبر الزمن، فكرة خيالية محضة، يبحث فيها مجانين التكنولوجيا و الرياضيات و الفلك بعيدا عن العامّة، فقد توقفت أسئلة الزمن عند بعضنا عند حدود براغماتية الحياة، و عند البعض الآخر عند ما هو أبسط ، حيث لا تتجاوز الأرقام تعداد الأيام و الأشهر و سنوات العمر.

سنة 1611 قدّم شكسبير شخصيته الخارقة بروسبيرو في مسرحيته " العاصفة" و التي تتحكم في خط الزمن، و كانت تلك فكرة مبكّرة جدا، لطرح فكرة الزّمن بتلك الطريقة، دعوة منه للتفكير مليا في كل أمر يحدث، من منطلق نصرة الخير على الشر، فقد يحدث أن ينتصر الشر بسبب الإستعجال أو التأخر في أخذ قرار ما، و لا شك أن العودة لأحداث المسرحية و لو بشكلها المختصر سيكشف للقارئ أن كل إهدار للوقت له ثمنه، تماما كما حدث لبروسبيرو الغارق في التسلية حتى استولى أخوه على الحكم، و طرده مع ابنته ميراندا فعاشا الأهوال لإثنتي عشرة سنة في جزيرة نائية لم يخرجا منها إلاّ حين استعاد الملك المخدوع زمام أموره، منكفئا في ركن للقراءة في كهفه على التعلّم و البحث و التجربة لإستعادة قوته التي ضاعت منه. 

لا أدري إن طرق الأدب العربي باب الزمن بنفس هذه الطريقة، لكني أعرف أن " آلة الزمن " لهربرت جورج ويلز من أجمل و أروع ما كتب لقراءة مستقبل البشرية بعد مئات الآلاف من السنين، الرواية صدرت في أواخر القرن التاسع عشر، و لمن لم يقرأها يمكن إقتناؤها كفيلم، لمعرفة الأسئلة الكبرى التي طرحها الكاتب في زمنه.  لكنه حتما نبّه لفكرة علمية حقيقية، و هي أننا نعيش على سلم زمني، حتى أنه بإمكاننا أن نرى الماضي متفاوتا في أنوار النجوم اللمّاعة ليلا، و قد توصل العلماء من هذا المنطلق لقياس سرعة الضوء، و معرفة المسافات الضوئية بالكيلومتر بين الكواكب و النجوم...

لا أدري هل يشغل هذا الموضوع كتابنا؟ لكني منذ طفولتي الباكرة تمنيت السّفر عبر الزمن، لإسترجاع بعض ما ضاع مني، لقد شعرت دوما أن أكبر لص و أشطرهم على الإطلاق هو الزّمن و أن ما يأخذه لا يمكن استعادته أبدا، إلاّ إذا أخترعت آلة للسفر عبر الزمن. 

و لعلّ هذا ما جعلني دوما حذرة في اللحظات الفارقة في حياتي الخاصّة، تحديدا ما أجدني مجبرة على الخضوع له كزمن مشترك، حيث تتقاطع الأزمنة، في مكان واحد، و حيث لا يمكن تخطي الماضي الذي يعيش فيه البعض.

في أوساطنا الأدبية ألمس جليا اللامبالاة القاتلة لحركة الزمن،  الكاتب لا يجرُّ قارئه لا للحاضر و لا للمستقبل، و لا حتى للإنعتاق من الماضي الثقيل. فيما يصعب حصر الأعمال الأجنبية التي تناولت الزمن كمادة فلسفية أثيرت حولها الأسئلة، إذ منذ مطلع القرن الواحد و العشرين، بلغ كُتّاب " أدب الزمن" - إن صحت تسميته  بذلك – رقما كبيرا، و من خلال قراءة سريعة عنه سنقف على هول المسافات الزمنية بيننا و بينهم، نحن الذين لم نستوعب بعد كروية المكان الذي نعيش فيه، و لا شساعة الفلك الذي نسبح فيه رغم المرجعية القرآنية التي تؤكد ذلك. 

لنعد لتلك اللحظة الفارقة التي تفصل سنة عن سنة، تلك التي إن لم نعشها بملء عقولنا و مشاعرنا، فلن ندخل الإطار الزمني الجديد، إن لم ننهِ سنة مضت و تمسّكنا بماض ثقيل فإنّنا سنشعر أننا شخنا و نحن لا نزال في الأربعين، وحده إدراك حجم زمننا الحاضر يبعث في أنفسنا روحا جديدة...

قد يقول البعض هل نحن بحاجة لهذا الوهم؟

و الجواب سيبقى متعلّقا بنسبية الأشياء، فمهما طالت أعمارنا، سنقاس بما أنجزناه من أعمال، و أرقام قليلة تُنْتَقى من سلم العمر.

هل كانت سنة ال 2018 سنة جيدة علينا؟ إن كانت سيئة فأمامنا بداية للقيام بإصلاحات، و إن كانت جيدة فأمامنا مهمة الحفاظ على ما تحقق فيها من نجاحات، و في كلا الحالتين، تبقى اللحظة الأهم بالنسبة لنا هي لحظة الصفر التي ننطلق منها، و ما يليها من خطوات نعيشها يوما بيوم...

سنة جديدة هي إضافة لعمر الصداقات الجميلة، كما قال فيكتور هيغو، و سنة جيدة دائما تعوضنا عن خسائر سنتين على قول فولتير...!

سنة حلوة لكم جميعا. و لا تتركوا اللص الشاطر يسرق اللحظات الجميلة من أعماركم. 

 

بروين حبيب 

شاعرة و إعلامية من البحرين