صدى العرب : رحلة سيد مكاوي من الآذان والإنشاد إلى شيخ الملحنين (طباعة)
رحلة سيد مكاوي من الآذان والإنشاد إلى شيخ الملحنين
آخر تحديث: الجمعة 26/10/2018 11:51 م
أحمد المرشد أحمد المرشد

نتواصل اليوم مجددا مع عالم الطرب، وتحديدا مع الملحن والمطرب سيد مكاوي أخرشيوخ الطرب، نعم للطرب شيوخ، ففي مصر يلقبون سيد درويش بـ"الشيخ" لأنه شيخ الملحنين والمطورين في الموسيقي العربية ويعد من باعثيها في العصر الحديث، وعرفنا الشيخ سلامة حجازي وزكريا أحمد وعبده الحامولي وغيرهم من المبدعين المجددين، وإذا كان معظم هؤلاء قد غيبهم التاريخ اللهم إلا الدارسون فإن سيد مكاوي بطلنا اليوم لا يزال حديث الموسيقيين والمهتمين بهذا العالم، لأنه لحن وغني وجدد وأبدع فعاشت أعماله خالدة، ويكفيه فخرا علي سبيل المثال تلحينه لأوبريت " الليلةالكبيرة" للشاعر المبدع صلاح جاهين صديقه المقرب واللذين تعاونا في إبداع أكثر من عملي فني، أما العمل الثاني فهو"المسحراتي" الذي دخل به كلبيت مصري ويذاع في رمضان حتي يومنا هذا رغم وفاته قبل11 عاما تقريبا.. فقد تفوق سيد مكاوي علي كل ملحني جيله في هذا العمل السنوي"المسحراتي" من كلمات فؤاد حداد، ليدخل به كل بيت بمصر في رمضان ليكون وجبة دسمة قبل وجبة السحور الحقيقية، ويقول فيه:" قالوا فى الأمثال الرِجل تدب مطرح ما تحب.. وأنا صنعتى مسحراتى فى البلد جواّل.. حبيب كما العاشق ليالى طوال.. وكل شبر وحتة فى بلدى حتة من كبدى حتة من الموال".

ولعلي أنقل هنا اعجابي بما سطرته بكلماتها الأديبة والكاتبة المصرية سناء البيسي عن سيد مكاوي لتقول عنه إن موسيقاه جعلت الخشب يرقصو هذا مجازا عن أوبريت "الليلة الكبيرة" الذي يعرض حتي يومنا هذا في مسارح الأطفال في مصر وكل قصورها الثقافية، فهذا الأوبريت كان بمثابة المفتاح السحري لسيد مكاوي لاقتحام عالم الشهرة والمجد، ولعلنا نقول إن موسيقاه في الليلة الكبيرة أنطقت العرائس حتي يكاد المشاهد يشعر بالحياة تدب فيهم وهم يتحركون علي المسرح بفعل روعة اللحن.
 ونحن لا ننكر هنا أن صلاح جاهين هو الأخر مشارك رئيس في هذا الإبداع، ونري من ضمن هذا الإبداع بضعة كلمات لا تأتي في خيال أحد سوي جاهين شاعر عصره وآوانه : "طار فى الهوا شاشى وإنت ما تدراشى.. يا جدع \طرفه شاور لى عليه حُكم الهوى ماشى\ يا غزال العشق حلال دوبنى أنا دوب خلاّنى خيال..اسعى اسعى اسعى خدلك صورة ستة فى تسعة\زمارة شخليلة عصفورة ياحليلة \ إوعد يارب إوعد اللى حيدفع راح يقعد واللى ما يدفعشى يبعد\ سلامات عالبلديات وبنات زى الشربات\ سمّعنا ياريس حنتيرة للصبح معاك السهيرة \مِسى التماسى مِسى التماسى يا ورد قاعد عالكراسى هات واحد شاي\ يارب يا عالم بالحال اهدى حبيبى ويصبح عال وأغنى وأرقع بالموال".

 
وبعيدا عن طفولة سيد مكاوي البائسة حيث أصيب بالعمي في عامه الثاني بسبب فقر عائلته وعدم قدرتها علي عرضه علي طبيب متخصص ليفقد بصره وهو لا يزال يحبو، فهو لم ييأس ويتذكر طفولته الكئيبة بل تجاوز كل هذا التاريخ ليدندن بعوده أعذب الألحان وأسهلها علي الأذن حتي أنه كان يرفض تلحين أو غناء الأغاني الحزينة، فسمته الشخصية كانت خفة الدم وسرعة البديهة، ففي يوم تأخرعلي سيدة الغناء العربي أم كلثوم حيث كانت تستعد لغناء "يا مسهرني .. ما خطرتش على بالك يوم تسأل عنى وعينيه مجافيها النوم" من تلحينه وعندما أحس بحرج من تأخير هو حضور كل  أعضاء الفرقة الموسيقية قال لها أنه تأخر بسبب أنه كان يقود السيارة بنفسه فما كان منها إلا أن ضحكت وذهب غضبها ليبدأ معا التدريب علي اللحن الجديد. فهكذا كان سيد مكاوي الذي لم يمنعه فقدان بصره من قيادة دراجة بخارية ذات يوم  وهو ما فعله الفنان محمود عبدالعزيز في فيلم "الكيت كات" عندما قاد دراجة بخارية في الحارة ليجري الجميع من أمامه، كما لم يتوان سيد مكاوي عن قيادة "العجلة" في حارته وهو صغير ولم يهتم باصابته أو تعرضه لجروح فالمهم عنده أن يعيش كما يعيش المبصرين.


عرف الوسط الفني في مصر سيد مكاوي بأنه فنان صاحب"مزاج عالي" يعيش مع مجموعة الحرافيش المكونة من نجيب محفوظ والفنان أحمد مظهر وغيرهم، وكانت موسيقاه بعيدة عن الشجن والأحزان كما ذكرنا، فهو إنسان دمه خفيف بطبعه وقد انعكس هذا علي ألحانه العبقرية، ليخرج بأنغام تطير بخيال المستمعين الي عالم أكثر عذوبة ونعومة، أنغام وصفوها بأنها "ريش النعام" ليقطف من كل بستان زهرة ومن كل ثغر قبلة.. اشتهرت موسيقي سيد مكاوي بنغم شرقي أصيل فلم يعتمد علي الآلات الحديثة وإنما كان مثل ملهمه سيد درويش غارقا في مصر يتهلتكون الحارة أساس عمله، خاصة وأنه تعلم كثيرا من عمله منشدا دينيا في طفولته ومؤذنا لأحد مساجد منطقته الشعبية في قلب السيدة زينب بالقاهرة فعرف كيف يخاطب آذان المصريين والعرب بألحان تفوق الخيال.. لتغني له ليلى مراد "حكايتنا إحنا الاتنين"، ونجاة "تفرق كتير"، وفايزة "مش كتيرعلى قلبى"، وشادية "همس الحب"، وهدى سلطان "دعاء رمضان"، وشهرزاد "غيرك انت مافيش"، وعبد المطلب " اسأل مرة علىّ قل لى قساوتك ليه أنا أفديك بعنيّه وأكثر من كده إيه ". واعتقد أن معظم جيلي يحفظ لمكاوي أغنيته لشريفة فاضل"مبروك عليك يا معجباني ياغالى عروستك الحلوة قمر بيلالى"، وكان لصباح أيضا نصيبا من موسيقاه فغنت له " أنا هنا يا ابن الحلال لا عايزة جاه ولا كُتر مال"، كما غني هو لنفسه "من يومنا واللـه وقلوبنا كويسة \وبقدم أحلى فرحة ومعاها ميت مِسا\ ياليل طوّل شوية ع الصحبة الحلوة دية\ ده الغالى علينا غالى ولا عُمره حيتنسى"، كما أبدعنا بموسيقاه وصوته بأغنية "ما تفوتنيش أنا وحدى أفضل أحايل فيك\ ما تخليش الدنيا تلعب بىّ وبيك \خللى شوية علىّ وشوية عليك.. ده أنا ليلة إمبارح ما جاليش نوم واحنا لسّه فى أول يوم.. قبل ما ترمينى فى بحورك.. مش كنت تعلمنى".

 
ولم يبتعد سيد مكاوي عن عالم الشباب فكان قريبا من على الحجار في "الرباعيات"، ليعود الي اللون الشعبي الذي يهواه مع أحمد عدوية في "سيب وأنا سيب".. وبما أنه فنان متعدد المواهب فكانت وردة علي موعد مع موسيقاه  في "أوقاتى بتحلو معاك" التي لحنها في البداية الي أم كلثوم التي لم يمهلها القدر لتؤديها. كما كان لوردة نصيبا أن تغني له "قال إيه بيسألونى عنك يا نور عيونى".

 

لم يكن سيد مكاوي فنانا غنيا ومع ذلك رفض اعتزال الغناء والتلحين مقابل شيك علي بياض وإعلانه أن الفن حرام، كما رفض الغناء في إسرائيل مقابل مليون دولار حتي وإن كان موافقا علي معاهدة السلام التي وقعها أنور السادات.
 

رحم الله سيد مكاوي صاحب النغم العربي الأصيل الذي علم نفسه بنفسه العزف علي العود حتي أنه فاق أساتذة معهد الموسيقي الذين رفضوه طالبا لأنه أكثر موهبة منهم وأن مكانه الطبيعي هو الأستاذ وليس الطالب، واستطاع بجهده أن يحجز لنفسه مكانا خالدا مع أساطين الموسيقي أمثال رياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمد عبد الوهاب والقصبجي وبليغ حمدي وغيرهم.


لكم كنت أتمني أن يكون سيد مكاوي بيننا اليوم ليلحن الكلمات التالية لتكون عبرة للجميع وتذكار عن الأصل والطيبة:

فى ناس بتشوفها مره وتعيش جواك سنين\ وناس فى كل مره بتشوفها تقول دى مين

وناس تاخد حاجات وناس بتسيب حاجات \ وناس عشان ساعات ممكن تبيع سنين

وناس عشرتها مرة وياها تعيش حزين

فى عيون تشبه عنين صافيين وقريبين \ وعيون تشبه مدينه مفيهاش ناس طيبين

وعيون حزن وسكوت وعيون حضن وبيوت\ وعيون بتر وحتموت وعيون تقدر تفوت

جواك فى ثانيتين\ وعيون بتروح وتأسى \ وعيون بتروح وتنسى\ وعيون لما نداويها

من قسوة السنين بتروح قوام وتنسى ويبقوا فرحانين


أحمد المرشد

كاتب ومحلل سياسي بحريني