صدى العرب : هل تعيد البصرة كتابة تاريخ العراق؟؟ (طباعة)
هل تعيد البصرة كتابة تاريخ العراق؟؟
آخر تحديث: الجمعة 14/09/2018 08:43 م
أحمد المرشد أحمد المرشد

ما شاهدناه وقرأناه وسمعناه عن مدينة البصرة اليوم وأحوالها المتدنية جعلني أعود بالذاكرة الي عام 1978 عندما كتبت مقالا عن مدينة النخيل الباسقات، أتغزل في البصرة رائعة الجمال وكان بعنوان " اللي ما شاف البصرة ..يموت حسرة".
 لقد عانت البصرة وخسرت الكثير من مفاتنها وروعتها وجمالها خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ثم نالت منها حرب تحرير الكويت عام1991 بعد غزو العراق للكويت،لأكتب مقالا آخر عن البصر عام1992 بعد تدميرها بعنوان " اللي يشوف البصرة .. يموت حسرة" .
 وما بين المقال الأول وحتي يومنا هذا يكون قد مرنحو 40 عاما تبدلت فيها الحياة في البصرة الفيحاء، شريان العراق الاقتصادي، وثغره الباسم، مدينة النخيل والحناء بأهلها الطيبين وتاريخها الزاخر بالأمجاد، حيث كانت دوما محلا للعشاق، ولهذا سكنها الشعراء والكتاب والفنانون. 
فالبصرة المعروفة بـ"الفيحاء" اشتهرت ببلد النخيل والأنهار والجداول، والطيبة، حتي وصفوها بـ"بندقية العرب" لكثرة ترعها وسواقيها وشطوطها وجداولها ومياهها الغزيرة وآبارها العذبة.

أما سحر الطبيعة فيتوفر فيغابات النخيل العالية الباسقة الذي يطرح أجود انواع التمرفي العالم، فتلك الغابات تجعل الأرض كأنها مظلة طبيعية تحمي السائر، وتضم طبيعة البصرة والأشجار المتنوعة وعرائش العنب المتشابكة، والمتقاطعة المتعانقة مع سعف النخيل وعذوقه وأغصان أشجار التوت والتين والرمان والليمون والبرتقال، والمانجو في نسيج عجيب لسجادة أغصان بارعة الروعة وعندما آصف البصرة تحضرني ابيات شعر للشاعر العراقي  مجيد العلي 

بصرتنا ما عذبت محب

واحنا العشك عذبنا..

يا بو بلم شط العرب

يعرفنا وموالفنا..

ياما كعدنا والنخل

عالي النخل فيّلنا..

ذكّر حبيبي بو لم

واحجيله عن اخباري.. 

يا بو بلم عشاري 

اشتهرت البصرة علي مر تاريخها بكثرة شعرائها وكتابها وعلمائها وأساطيرها وحكاياتها النابعة من تلكالبيئة  العذرية لتلهم الشعراء والرسامين والفنانين بأجمل قصائد ولوحات فنية عن الأشجار والنخيل والأنهار والأسواق القديمة والبيوت الأثرية بيوت الشناشيل((المشربية)) والبساتين الجميلة والطيور والأسماك، فهي جنة أرضية بكلما فيها من أناس طيبين وكرم فطري وبساطة عذرية وروائح زكية الا ان هذا الجمال الرباني  قد سقط  ضحية الزمن والتغيير والحروب والنزاعات في مستنقع آسن لنري البصرة البائسة.

التي كنت أتمني أن تظل كما عرفتها وكتبت عنها عام 1978، ولكن البصرة تحولت الي مدينة لا يرضي عنها سكانها لما يعانونه من إهمال من السلطة المركزية في بغداد رغم أنها العاصمة الاقتصادية للعراق وتمده بنحو 93% من إنتاجه النفطي، ولكن أهل البصرة استيقظوا أخيرا علي وقع أزمة خطيرة تهدد مستقبل مدينتهم ودولتهم الممثلة في العراق الكبير، هذا العراق الذي ابتلعه حكام إيران منذ عام 2003 عندما غزته القوات الأمريكية لتطيح بصدام حسين وتترك بدلا منه نظام الملالي.

 لقد انتفضت مدينة البصرة ضد استيلاء إيران لخيرات مدينتهم والعراق الكبير، لتكون في مقدمة المدن الرافضة لهذا الوجود الإيراني المتنامي، فكان موعد الانتفاضة في أواخر يوليو الماضي واستمر حتي يومنا هذا، وكان الجمعة قبل الماضي هو ذروة الانتفاضة احتجاجا علي تردي الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات العامة في المحافظة ذات الأغلبية الشيعية.

  وقد حملت انتفاضة أهالي البصرة رسائل عدة لحكومتي بغداد وطهران معا، فتلك الانتفاضة تجاوزت مرحلة الغضب ذي الدوافع الاقتصادية والمعيشية إلى مرحلة جديدة يكون عنوانها "استعادة الوعي" الذي ظل غائبا أو مغيبا لفترة طويلة منذ عام 2003 تقريبا عندما بسط الإيرانيون أيديهم علي مقومات العراق.

 فقد أدرك أهالي البصرة دون غيرهم من بقية مدن العراق تقريبا الأسباب الحقيقية التي قادت الي حالتهم هذه من فقر وسوء إدارة مرافق أغنى المدن العراقية والمعبر البحري الوحيد للعراق.

 لقد أدرك سكان البصرة أن مشاكلهم الاقتصادية لا تكمن في قلة الموارد، ولكن في رهن قرار بلادهم السياسي في يد إيران التي عمدت الي إفقار العراق والتهام ثرواته واستخدامه كرأس حربة لمشروعها التوسعي، رغم ما تدعيه زورا وبهتانا أنها تريد الخير لبلادهم.

لقد انتفض سكان البصرة ليكونوا في مقدمة بقية شعب العراق، وكان لانتفاضتهم درسا بالغا لطهران، حيث تم إحراق القنصلية الإيرانية في البصرة ومن قبلها إحراق صور الخميني وخامنئي، ليؤسس هذين الحدثين  واقعا جديدا بالعراق، قوامه رفض الهيمنة الإيرانية وأن هذا الرفض قد أصبح مطلبا شعبيا حتى في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، ويسقطان ما حاولت إيران أن تروج له طوال عقود على أنها حامية الشيعة في بلاد الرافدين.


 ومن ضمن الإشارات المهمة في هذه المشهد والذي يعد تحولا عميقا في المشهد العراقي عموما  وليس البصرة وحدها، أن العراق كبلد مركز يبدأ يتعافي ويستعيد هويته الوطنية وقراره المستقل وإنهاء حالة الانتماء للمذهب الدين يليكون البديل هو إعلاء الانتماء للعراق ذاته، هذا رغم التبدلات التي عهدناها في السياسة العراقية المرتبطة بإيران وموقف رئيس الوزراء حيدر العبادي من العقوبات الأمريكية علي إيران.

لطالما كانت البصرة هي قلب العراق النابض وأرض نخيلها الباسقة وأشجارها الوارفة لذلك لابد ستظل ثغر العراق الأهم ومستودع نفطه وتجارته وقمحه ونخيله ، ومنجم ثرواته الفكرية والفلسفية والأدبية، ومنبع غنائه وموسيقاه، ولتظل مدينة الجاحظ والفارابي وابن سيرين وبدر شاكر السياب.. حتي وإن كانت  إيران قد نجحت بعد الإطاحة بالنظام البعثي في إبعاد العراق عن انتمائه العربي وتدمير هويته الوطنية لتزرع بذور الفتنة وتذكي نيران النزعات الطائفية والمذهبية، تحقيقا لأحلامها في التوسع والهيمنة.

إن ما شهدته البصرة أخيرا يؤكد فشل طهران أولا في فرض مشروعها الطائفي في العراق، ومن بعده  ثانيا في سوريا واليمن ولبنان.
ومطلوب من العرب الإسراع في تعزيز قوة الدولة العراقية لكي تتمكن الحكومة المركزية من المساواة بين كل العراقيين، وعلي العرب الانخراط بصورة أكبر في التعاون الاقتصادي مع العراق وتعزيز المشروعات العملاقة طويلة الأمد، فمثل هاتين الخطوتين تساهمان بالضرورة في تقليص الاعتماد العراقي علي إيران، لتكون مساعدات العرب عموما الجسر الذي يعبر عليه العراق الي المستقبل بعيدا عن الصراعات الطائفية والعرقية.
 ولا نخفي سرا إذا قلنا أن ضياع العراق تتحمله الدول العربية التي لم تحتوي  بلاد الرافدين، حيث تركت العراق يعاني من مشكلاته مما أتاح الفرصة لإيران للتدخل بشؤونه الداخلية والسيطرة علي قيادته وقراره السياسي. وقد أسفر هذا الابتعاد العربي عن حدوث فراغ سياسي الأمر الذي انتهي عليه حال العراق.

نأمل نحن العرب أن تعود البصرة الي سيرتها الأولي، صافية في ليلة قمرية لتستقبلنا ببساتينها ورياحينها ونخيلها ورمانها، ولتعود البصرة كما عهدناها تلك المدينة المحاطة بالمجاري المائية من جهاتها الأربع، التي تضفي عليها  حركة المد والجزر التي تحدث يوميا جمالا لتجعلها نابضة دوما بالحياة لنكتب عنها من جديد " اللي ماشاف البصرة.. يموت حسرة" .. وعلينا جميعا مساندة العراق بعدما شاهدنا "بصرتها" تفتح النار علي إيران لترحل عن بلاد الرافدين وتترك للعراق يينيحكمون أنفسهم بدون تدخلا تفجة من طهران.
 
قبل الأخير...
انتصارات الدبلوماسية البحرينية

وبمناسبة انقلاب سكان البصرة ضد التدخلات الإيرانية، حققت الدبلوماسية البحرينية انتصارا جديدا في حربها ضد الإرهاب، وذلك بالقرار القوي الذي اتخذه مجلس جامعة الدول العربية في اجتماعه الوزاري الأخير بإدانة التدخلات الإيرانية المستمرة في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين.. فلم تكن الجامعة العربية بعيدة عن كل التصرفات الإيرانية بحق جيرانها ومن بينهم البحرين ومساندتها للإرهاب وتدريب الإرهابيين وتهريب الأسلحة والمتفجرات وإثارة النعرات الطائفية بالمملكة، ومواصلة التصريحات على مختلف المستويات لزعزعة الأمن والنظام والاستقرار، وتأسيسها جماعات ارهابية بالمملكة ممولة ومدربة من الحرس الثوري الإيراني وذراعيه كتائب عصائب أهلال حق الإرهابية والاشتر وحزب الله الإرهابي، وأكد القرار العربي دعم مملكة البحرين في جميع ما تتخذه من إجراءات وخطوات لمكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية، للحفاظ على أمنها واستقرارها.

احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني